أقلام مجنحة

على ضفاف نهر الحياة د. قاسم كوفحي – الإمارات

 

د. قاسم محمد كوفحي

يا رفيق الروح، أيها الإنسان السائر على تراب هذا الوجود، المرء يخطو على نهر الحياة، تتوق روحه لموجة تهمس له بأسرار البقاء، يترقب بصيص أمل، يحلم بابتسامة تضيء عتمة أيامه، لكن تلك الشطآن الخفية، حيث تتراقص ظلال الماضي، تناديه بصمت الموت، تغويه أن يعيش، أن يرتوي من رحيق اللحظات، ثم تئن روحه من ثقل العيش، كأن العمر شرابٌ مرّ، يخدر عقله ثم يؤذي، يُزهِر ثم يذبل.

وتجري الأيام، تعبث بخيوطنا كطفلٍ ضائعٍ يلهو بدمية، تسلبنا ما كنا نحب، وما كنا نظنه أبديًا، فتتبقى ذرات الفرح نادرة كرحمة السماء في قحط الأزمان، وعيون الحساد ترنو إلينا بما يحسدون، وقلب لم يعد يرى في العيش متعة، بل ثقلاً يضغط على أنفاسه.. يصبح طول العيش سكيناً يقطع أوراق الفرح، كيف تبدأ الحياة كقصيدة حلوة، تتدفق كالنهر الذي يغرد في أذنيك، ثم يجف تدريجياً، يتركك في صحراء من الوهن.

لكن هناك في صمت الروح، وفي عمق الأعماق، يرنو سؤال أبدي: هل نحن نعيش لنموت، أم نموت لكي نعيش؟ وكل لحظة عيشٍ، تمضي برقةٍ موجعة، تُذَكِّرنا بأننا نُولد لنموت، ثم نعيش، ونموت لنظل نعيش في ذاكرة الغد.. هكذا الحياة، حلمٌ متجسدٌ في مرارة الواقع، وتبقى ابتسامة العاشق أمام المرآة بعد فناء العيش مرة، كأنها سِمة قلب لم يعد يصدق وجود نفسه.. تفنى بشاشته وتبقى، وتفنى سِماته في زحام الأيام، وتبقى الذاكرة تحمل حزن العيون التي تود أن ترى فرحًا بسيطًا لا يزول.

نحن لا نُسقط عن أفكارنا خيار الموت البطولي، بل نتساءل: أليس في الموت فرصة للانتهاء من لعبة الخوف؟ أم أن الحياة تعلمنا أن نُلقى بأنفسنا إلى حواف العمر، ونترك خلفنا سؤالاً بلا إجابة: كم شامت بي إن هلكت؟ كم سيشمتون بك، إذا ما انكسرت، كم سيقفون على أطلالك يضحكون من أوهامك العتيقة؟ أنتَ، يا من تُجبر على هذا الوجود، لست إلا ظلاً يرقص في دهاليز الزمن، تتساءل: هل كان الأفضل أن تكون قصيدة قصيرة، بدلاً من أن تطول وتصير جرحًا لا يندمل؟

وفي صمت قمت لأشعل قنديلاً في فناء الروح: ليس العيش فحسب هو الحياة، بل كيف نموت من أجل معنى نبقيه حين نحط رحالنا. أريد أن أعيش حتى لو كان العيش في بعض لياليه مرّة كالحنظل، حتى لو تخون الأيام كل وعد، حتى لو لم يرني أحد حين ألوذ بالصمت الأخير. رغم الألم، نتشبث بالنبض، نرنو إلى فجرٍ جديد، علّ فيه الروح تبكي فرحاً، وتضحك حتى ولو على أطلالنا. لأن العيش، رغم مرارته، هو ذاك الرباط العميق، الذي يجعلنا نحيا، حتى وإن خذلتنا الأيام، حتى وإن خذلتنا أنفسنا. لعلها قطعة فلسفة مشرّبة بنار الحب: أن الإنسان حين يعيش كالجسور بين الماضي والمستقبل، ربما يجد في ذلك التوازن الذي يحفظه من أن يغرق في فراغ بسيط يُسلمه للزمن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى