مقالات

وقفات مع المتنبي (46) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

"فلسفة الإكرام  والاحترام"

د. أحمد الزبيدي

 

قال أبو الطيب المتنبي -رحمه الله- في “معجز أحمد” (ص311 ):

إذا أنتَ أَكْرمتَ الكريمَ مَلكتهُ

وإِنْ أنتَ أكرمتَ اللئيمَ تَمرَّدا

يقول: إذا أنت أكرمت الكريم ارتهنت شكره، واستوجبت ملكه؛ لأنه يعترف بفضلك، ويُقرّ بحقك، وإذا أنت أكرمت اللئيم زاد في تمرده، وأطغاه منك تألفه.

وفي هذا كبير تحذير، لمن لا يُحسِنُ التدبير؛ فيظن الناس كلهم سواسية ولا يُفَرِّقُ بينهم بالإكرام والنائلة، فيناله من بعض اللئام غائلة.

وظني أن بيت المتنبي لم يتأتّ لشَاعِر قبله ولا بعده، وسبحان من يهب الْحِكْمَة لمن يشاء، وقد تجد هذا المعنى الذي أشار إليه المتنبي في التنزيل العزيز، قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}، تعليلٌ لمحاجّة الملِك إبراهيمَ في ربه.

 قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ نَمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَجَبَّرَ وَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، والْمَعْنَى-والله أعلم- أنه حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ لِأَجْلِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ إِيتَاءَ الْمُلْكِ أَبْطَرَهُ وَأَوْرَثَهُ الْكِبَرَ وَالْعُتُوَّ فَحَاجَّ لِذَلِكَ، ومثله كلامه تعالى في سورة براءة عن إجرام المنافقين ونقمتهم على دين الله رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: {وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله}.

فما كان هؤلاء المنافقون إلا عالة، فلما أغناهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ جعلوا ذلك سبباً في عداوتهم لمن أكرمهم وأحسن إليهم .

قال الفخر الرازي في “مفاتيح الغيب”: (ج16: ص105):” تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يَنْقِمُونَ مِنْهُ، وَهَذَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا

أنهم يحلمون إن غضبوا

وكقوله النَّابِغَةُ:

وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ

بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

أَيْ لَيْسَ فِيهِمْ عَيْبٌ.

وفي “محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء” (ج1:299)، عقد الراغب بابا في النهي عن إكرام اللئام، قال: قال يزيد بن معاوية لأبيه: هل ذممت عاقبة حلم؟ قال: ما حلمت عن لئيم وإن كان وليًا إلا أعقبني ندمًا، ولا أقدمت على كريم وإن كان عدوًا إلا أعقبني أسفًا. قال شاعر:

متى تضع الكرامة في لئيم

فإنّك قد أسأت إلى الكرامة

وقد ذهبت صنيعته ضياعًا

وكان جزاء فاعلها النّدامة

وقيل: الكريم يستصلح بالكرامة واللئيم بالمهانة.

ومن أمثال العرب؛ إنَّ الهَوَان لِلَّئيمِ مَرْأمَة.

والمَرْأَمة: الرِّئْمَانُ، وهما الرأفة والعطف. يعني إذا أكرمْتَ اللئيم استخفَّ بك، وإذا أهنته فكأنك أكرمته.

ومن أمثالهم في هذا ” أجع كلبك يتبعك”.

وقَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ-رحمه الله-:

«مَا رَفَعْتُ مِن أَحَدٍ فَوقَ مَنْزِلَتِهِ؛ إِلاَ وَضَعَ مِنيِّ بِمِقْدَارِ مَا رَفَعْتُ مِنهُ”.

وقال أحمد الهاشمي المصري؛ مؤلف كتاب “جواهر الآداب” معارضاً لامية الطغرائي:

إِنَّ الصَّنِيعَةَ لِلأَنْذَالِ تُفْسِدُهُمْ

كَمَا تُضِرُّ رِيَاحُ الْوَرْدَ بِالْجَعَل

وقال آخر:

 إِنَّ الْعَبِيدَ إِذَا أَذْلَلْتَهُمْ صَلَحُوا

 عَلَى الْهَوَانِ وَإِنْ أَكْرَمْتَهُمْ فَسَدُوا

وقال آخر:

إن ذا اللؤم إذا أكرمته

حسب الإكرام حقًا لزمك

وأخا الفضل إذا أكرمته

 لم يُصَغّرْكَ ولكن عظَّمَك

وعلى قدر إحسان المرء إلى اللئيم، تكون إساءة اللئيم إليه، كما قال معن بن أوس متوجعًا من لئيم:

أُعلِّمُه الرماية كل يوم

فلما استد ساعده رماني

أعلِّمُه الفتوة كل وقت

فلما طر شاربه جفاني

وكم علَّمْتُه نظم القوافي فلما قال قافية هجاني!

قال صاحب “بدائع السلك في طبائع الملك” (ج2:ص36):” وَفِي الأفلاطونيات: اتَّقوا صولة الْكَرِيم إِذا جَاع وبطش الخسيس إِذْ شبع”.

ويروي أن أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب -كرم الله وجهه- دعا غلامًا له مرات فلم يجبه، فنظر فإذا الغلام بالباب، فقال له : “لِمَ لَمْ تجِبني؟”، فقال الغلام: “لثقتي بحِلمك، وأمني من عقوبتك”،  فاستحسن جوابه وأَعتقه.

وثمة رأي؛ أن أمير المؤمنين لم يستحسن جوابه، وإنما أعتقه للؤمه وخسة طبعه، ولعله -كرم الله وجهه- أعتقه رغبة عن معاشرة من يقابل الإحسان بالكفران؛ إذ الطبائع السليمة والفطر المستقيمة يأسرها المعروف، ويملكها ويأخذ بأعناقها إسداء الخير وجميل الفعل، وقد استشهد الإمام القرطبي-رحمه الله- في تفسيره بشعر المتنبي في مجال البلاغة والأدب؛ عند تفسيره لقوله تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [إبراهيم: 49] فذكر أن الإصفاد يأتي في اللغة بِمعنى العطاء، ويأتي بمعنى القيد، فقال: “وقيل: صَفَدتُهُ وأَصْفَدتُهُ جاريانِ في القَيدِ والإعطاءِ جَميعًا، قال النابغة:

هَذَا الثّنَاءُ فإن تَسْمَعْ لِقَائِلِهِ

فَلَمْ أُعَرِّضْ أَبيتَ اللَّعْنَ بالصَّفَدِ

والشاهد هنا : “الصَّفَدُ” وهو العَطاءُ؛ لأَنَّهُ يُقَيّدُ ويُعْبِدُ، قال أبو الطيب:

وقَيّدْتُ نَفسي في ذَرَاكَ مَحبَّةً

 ومَنْ وَجَدَ الإحسانَ قَيدًا تَقيَّدَا

فالقرطبي هنا لم يستشهد ببيت المتنبي لمعنى لغوي للكلمة، وإنما استشهد به استشهادًا معنويًا، وهو أَنَّ العطاءَ سُمِّي صَفَدًا لأَنَّه يُقيّدُ الآخذَ بِمعروفِ المُعطي قَيدًا مَعنويًا، لأنهُ يكون أسيرًا لمعروفه، إِنْ كان حُرًّا يَحفظُ المعروفَ، ولذلك قال المتنبي قبل هذا البيت:

ومَا قَتَلَ الأحرارَ كالعَفْوِ عنهمُ

 ومَنْ لكَ بِالحُرِّ الذي يَحفظُ اليَدَا

إذا أنتَ أَكْرمتَ الكريمَ مَلكتهُ

وإِنْ أنتَ أكرمتَ اللئيمَ تَمرَّدا

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَوْلَيْتُهُ مَعْرُوفًا إلَّا أَضَاءَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنِي، وَلَا رَأَيْتُ رَجُلًا فُرِّطَ إلَيْهِ مِنِّي شَيْءٌ إلَّا أَظْلَمَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْمَعْرُوفُ أَمْيَزُ زَرْعٍ، وَأَفْضَلُ كَنْزٍ، وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِثَلَاثِ خِصَالٍ: بِتَعْجِيلِهِ، وَتَصْغِيرِهِ، وَسَتْرِهِ، فَإِذَا عُجِّلَ فَقَدْ هَنَأَ، وَإِذَا صَغُرَ فَقَدْ عَظُمَ، وَإِذَا سُتِرَ فَقَدْ تَمَمَ.

وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ: مَا شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ الْمَعْرُوفِ إلَّا ثَوَابَهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَرْغَبُ فِيهِ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ يُؤْذَنُ لَهُ فِيهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الرَّغْبَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِذْنُ تَمَّتْ السَّعَادَةُ لِلطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ مِنْهُ.

وَقَالَ زُهَيْرٌ بن أبي سُلمى:

وَمَنْ يَجْعَلْ الْمَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ

يَقِيهِ، وَمَنْ لَا يَتَّقِي الشَّتْمَ يُشْتَمْ

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُزَهِّدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ كُفْرُ مَنْ كَفَرَهُ فَإِنَّهُ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لَا تَصْنَعُهُ إلَيْهِ.

 وَكَانَ يُقَالُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إسْرَافٌ إلَّا فِي الْمَعْرُوفِ، وَكَانَ يُقَالُ لَا يُزَهِّدَنَّكَ فِي اصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ دَمَامَةُ مَنْ تُسْدِيهِ إلَيْهِ، وَلَا مَنْ يَنْبُو بَصَرُكَ عَنْهُ، فَإِنَّ حَاجَتَكَ فِي شُكْرِهِ وَوَفَائِهِ لَا فِي مَنْظَرِهِ.

 وَكَانَ يُقَالُ: اصْنَعْ الْمَعْرُوفَ إلَى كُلِّ أَحَدٍ؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ فَقَدْ وَضَعْتَهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ كُنْتَ أَنْتَ مِنْ أَهْلِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَلَمْ أَرَ كَالْمَعْرُوفِ أَمَّا مَذَاقُهُ

فَحُلْوٌ وَأَمَّا وَجْهُهُ فَجَمِيلُ

وكَانَ يُقَالُ: مَنْ أَسْلَفَ الْمَعْرُوفَ كَانَ رِبْحُهُ الْحَمْدَ.

 وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – فِي كُلِّ شَيْءٍ سَرَفٌ إلَّا فِي إتْيَانِ مَكْرُمَةٍ، أَوْ اصْطِنَاعِ مَعْرُوفٍ، أَوْ إظْهَارِ مُرُوءَةٍ.

 وَقَدْ قِيلَ: كَانَ يُقَالُ كَمَا يُتَوَخَّى لِلْوَدِيعَةِ أَهْلُ الْأَمَانَةِ وَالثِّقَةِ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَخَّى بِالْمَعْرُوفِ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالشُّكْرِ.

 وقيل: إعْطَاءُ الْفَاجِرِ يُقَوِّيهِ عَلَى فُجُورِهِ، وَمَسْأَلَةُ اللَّئِيمِ إهَانَةٌ لِلْعِرْضِ، وَتَعْلِيمُ الْجَاهِلِ زِيَادَةٌ فِي الْجَهْلِ، وَالصَّنِيعَةُ عِنْدَ الْكَفُورِ إضَاعَةٌ لِلنِّعْمَةِ، فَإِذَا هَمَمْتَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا فَارْتَدِ الْمَوْضِعَ قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى الْفِعْلِ.

وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ الصَّنِيعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي ذِي حَسَبٍ أَوْ دِينٍ، كَمَا أَنَّ الرِّيَاضَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي نَجِيبٍ» .

وَذَكَرَ فِي مَكَان آخَرَ: خَمْسَةُ أَشْيَاءَ أَضْيَعُ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا: سِرَاجٌ يُوقَدُ فِي الشَّمْسِ، وَمَطَرٌ وَابِلٌ فِي أَرْضٍ سَبِخَةٍ، وَامْرَأَةٌ حَسْنَاءُ تُزَفُّ إلَى عِنِّينٍ، وَطَعَامٌ يُسْتَجَادُ ثُمَّ يُقَدَّمُ إلَى سَكْرَانَ أَوْ شَبْعَانَ، وَمَعْرُوفٌ تَصْنَعُهُ عِنْدَ مَنْ لَا يَشْكُرُكَ.

 وَفِي “التَّوْرَاةِ” مَكْتُوبٌ: افْعَلْ إلَى امْرِئِ السُّوءِ يَجْزِكَ شَرًّا وَكَانَ يُقَالُ: صَاحِبُ الْمَعْرُوفِ لَا يَقَعُ فَإِذَا وَقَعَ أَصَابَ مُتَّكِئًا.

قال الأصمعيّ- رحمه الله تعالى-: سمعت أعرابيّا يقول: أسرع الذّنوب عقوبة كفر المعروف.

وَكَتَبَ أَرِسْطُوطَالِيسُ إلَى الْإِسْكَنْدَرِ: امْلك الرَّعِيَّةَ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهَا تَظْفَرْ بِالْمَحَبَّةِ مِنْهَا، وَطَلَبُكَ ذَلِكَ مِنْهَا بِإِحْسَانِكَ أَدْوَمُ بَقَاءً مِنْهُ بِاعْتِسَافِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ إنَّمَا تَمْلِكُ الْأَبْدَانَ فَتَتخَطَّاهَا إلَى الْقُلُوبِ بِالْمَعْرُوفِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ إذَا قَدَرَتْ عَلَى أَنْ تَقُولَ قَدَرَتْ عَلَى أَنْ تَفْعَلَ، فَاجْتَهِدْ أَنْ لَا تَقُولَ، تَسْلَمْ مِنْ أَنْ تَفْعَلَ.

وَقَالَ مُعَاوِيَةُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – لِيَزِيدَ : يَا بُنَيَّ اتَّخِذْ الْمَعْرُوفَ مَنَالًا عِنْدَ ذَوِي الْأَحْسَابِ تَسْتَمِلْ بِهِ مَوَدَّتَهُمْ وَتَعْظُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَإِيَّاكَ وَالْمَنْعَ فَإِنَّهُ ضِدُّ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يُقَالُ حَصَادُ مَنْ يَزْرَعُ الْمَعْرُوفَ فِي الدُّنْيَا اغْتِبَاطٌ فِي الْآخِرَةِ.

وذَمَّ أَعْرَابِيٌّ رَجُلًا فَقَالَ: كَانَ سَمِينَ الْمَالِ، مَهْزُولَ الْمَعْرُوفِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ أَوْ الزُّبَيْرِيُّ: مَنْ زَرَعَ مَعْرُوفًا حَصَدَ خَيْرًا، وَمَنْ زَرَعَ شَرًّا حَصَدَ نَدَامَةً.

قَالَ الشَّاعِرُ:

و مَنْ يَزْرَعْ الْخَيْرَ يَحْصُدْ مَا يُسَرُّ بِهِ

وَزَارِعُ الشَّرِّ مَنْكُوسٌ عَلَى الرَّاسِ

وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ:

يَدُ الْمَعْرُوفِ غُنْمٌ حَيْثُ كَانَتْ

تَحَمَّلَهَا شَكُورٌ أَوْ كَفُورُ

فَفِي شُكْرِ الشَّكُورِ لَهَا جَزَاءٌ

وَعِنْدَ اللَّهِ مَا كَفَرَ الْكَفُورُ

وَلِابْنِ دُرَيْدٍ وَقِيلَ: إنَّهُ أَنْشَدَهُمَا:

وَمَا هَذِهِ الْأَيَّامُ إلَّا مُعَارَةٌ

فَمَا اسْطَعْتَ مِنْ مَعْرُوفِهَا فَتَزَوَّدْ

فَإِنَّك لَا تَدْرِي بِأَيَّةِ بَلْدَةٍ

تَمُوتُ وَلَا مَا يُحْدِثُ اللَّهُ فِي غَدِ

وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرْ: خَيْرُ أَيَّامِ الْمَرْءِ مَا أَغَاثَ فِيهِ الْمُضْطَرَّ، وَارْتَهَنَ فِيهِ الشُّكْرَ، وَاسْتَرَقَّ فِيهِ الْحُرَّ.

جَمَعَ كِسْرَى مَرَازِبَتَهُ وَعُيُونَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمْ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَنْتُمْ أَشَدُّ نَدَامَةً؟ فَقَالُوا عَلَى وَضْعِ الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ، وَطَلَبِ الشُّكْرِ مِمَّنْ لَا شُكْرَ لَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَزَهَّدَنِي فِي كُلِّ خَيْرٍ صَنَعْتُهُ

إلَى النَّاسِ مَا جَرَّبْتُ مِنْ قِلَّةِ الشُّكْرِ

وَقَالَ آخر:

وَمَنْ يَجْعَلْ الْمَعْرُوفَ مَعْ غَيْرِ أَهْلِهِ

يُلَاقِ الَّذِي لَاقَى مُجِيرُ امِّ عَامِرِ

وأم عامر كنايه عن الضبع، وكان أعرابي قد أواها وأطعمها فلما قويت واشتدت وثبت عليه وهو نائم وقتلته.

قَالَ الْمُهَلَّبُ: عَجِبْتُ لِمَنْ يَشْتَرِي الْمَمَالِيكَ بِمَالِهِ وَلَا يَشْتَرِي الْأَحْرَارَ بِمَعْرُوفِهِ.

 وَقَالَ: لَيْسَ لِلْأَحْرَارِ ثَمَنٌ إلَّا الْإِكْرَامَ فَأَكْرِمْ حُرًّا تَمْلِكْهُ.

وَقَالَ عَبْدُ مَنَافٍ: دَوَاءُ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ الْإِكْرَامُ، الْهَوَانُ.

وقَالَ الشَّاعِرُ:

مَنْ لَمْ يُؤَدِّبْهُ الْجَمِيلُ

فَفِي عُقُوبَتِهِ صَلَاحُهْ

وَقَالَ العلامة ابْنُ عَقِيلٍ الحنبلي فِي “الْفُنُونِ”: فِعْلُ الْخَيْرِ مَعَ الْأَشْرَارِ تَقْوِيَةٌ لَهُمْ عَلَى الْأَخْيَارِ، كَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْرَمَ الْخَيْرُ أَهْلَهُ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْرَمَ الْخَيْرَ حَقَّهُ، فَإِنَّ وَضْعَ الْخَيْرِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ ظُلْمٌ لِلْخَيْرِ كَمَا قِيلَ: لَا تَمْنَعُوا الْحِكْمَةَ أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ، وَلَا تَضَعُوهَا فِي غَيْرِ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا، كَذَلِكَ الْبِرُّ وَالْإِنْعَامُ مُفْسِدٌ لِقَوْمٍ حَسَبُ مَا يُفْسِدُ الْحِرْمَانُ قَوْمًا، قَالَ: فَهُوَ كَالنَّارِ كُلَّمَا أُطِيبَ لَهَا مَأْكَلًا سَطَتْ فَأَفْسَدَتْ قَالَ فَرْقَدٌ: قَالَ الْمُتَنَبِّي:

وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالْعُلَا

 مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى

فَالسِّيَاسَةُ الْكُلِّيَّةُ افْتِقَادُ مَحَالِّ الْإِنْعَامِ قَبْلَ الْإِنْعَامِ، وَقَالَ عَلِيٌّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُنْ مِنْ خَمْسَةٍ عَلَى حَذَرٍ مِنْ لَئِيمٍ إذَا أَكْرَمْتَهُ، وَكَرِيمٍ إذَا أَهَنْتَهُ، وَعَاقِلٍ إذَا أَحْرَجْتَهُ، وَأَحْمَقَ إذَا مَازَحْتَهُ، وَفَاجِرٍ إذَا مَازَجْتَهُ.

حكاية:

لما شكى أبو العيناء تأخر أرزاقه إلى عبيد الله بن سليمان قال: ألم نكن كتبنا لك إلى ابن المدبر؟ فما فعل في أمرك؟ قال: جرني على شوك المطل، وحرمني ثمرة الوعد؛ فقال: أنت اخترته، فقال وما علي واختار موسى سبعين رجلاً فما كان منهم رشيد فأخذتهم الرجفة، واختار النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي السرح كاتباً فلحق بالمشركين مرتداً، واختار علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبا موسى الأشعري حاكماً حكماً فحكم عليه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. قراءة الدكتور أحمد الزبيدي لهذا البيت الخالد من شعر المتنبي تكشف كيف يتحول الإكرام إلى قيدٍ من المحبة في عنق الكريم، وكيف ينقلب إلى تمرد عند اللئيم. مقال ثري بالشواهد والاقتباسات، يعيد إحياء حكمة المتنبي لتصبح درسًا في الأخلاق والسياسة معًا، ويذكّرنا أن المعروف لا يضيع إذا وُضع في أهله، لكنه يفسد إن وُضع في غير موضعه.

  2. الله يا د. أحمد على عظمة هذا التراث، بيت واحد من الشعر استدعى قرآن وسنة، وشعر وأدب ولغة..
    لا نملك الا ان نفتخر لهذا التراث، ولا نملك الا ان ندعو الله ان يبارك قلمك

    1. رائع ..المتنبي ..لا يقارن بأحد
      انظر ما أجمل قوله:
      ومَا قَتَلَ الأحرارَ كالعَفْوِ عنهمُ
      ومَنْ لكَ بِالحُرِّ الذي يَحفظُ اليَدَا
      إذا أنتَ أَكْرمتَ الكريمَ مَلكتهُ
      وإِنْ أنتَ أكرمتَ اللئيمَ تَمرَّدا

اترك رداً على Raafat إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى