أخبار

ردٌّ على شبهات علي الكيالي – د. أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

 وقفت منذ أيام على فيديو للدكتور علي الكيالي، فرأيته يهوش[يخلط] في الحديث عن الدين، ويشوش على عقائد المسلمين، فحملني ذلك على تتبع مقاطعه، وتتبع مزاعمه، فماذا وجدت؟! وجدت رجلا صاحبَ هوى، وامرءًاً ضلّ عن الطريق والتوى، وضل فؤاده وغوى، ورأيت مفتونًا، همه إضلال العوام، وتفريقهم إلى فئات وفئام، وتشكيكهم في الحج والصلاة والصيام ، فتذكرت -عندها- حجم الشبهات التي يثيرها خصوم الإسلام، أو الجاهلون بحقيقته، وحجم ما يكال له، وما يكاد به من مكر وخداع، وتضليل وضياع. قال تعالى : {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} [إبراهيم: 46].

فاستحضرت سنة الله في الخلق؛ حيث تقضي بالتدافع الفكري بين الباطل والحق، ولا أقول على امتداد التاريخ الإسلامي، بل على امتداد التاريخ كله؛ ما وُجد في الأرض خير وشر، وما كان في الحياة باطل وحق، وعقل حرّ، وعقل استُرق!

ولا ريب أن هذا التدافع هو من أهم السبل المحفزة، والطرق المعززة، لتوضيح مفاهيم الإسلام، وإقامة الحجج والبرهان، وإزالة الغشاوة التي علقت بقواعده وغطت كثيرًا من الأذهان، على أن هذا التدافع يحمدُ من جهة أخرى؛ فهو منشط لملكات العقل، ومحفز لطاقات الذهن، ولولاه لظل خاملا راكدا عن رد الشبهات، ودفع الأباطيل والأكاذيب والافتراءات. التي يرمى بها الإسلام مذ كانت الأرض والسموات.  وصدق الله العظيم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 112) . فالقرآن يعلمنا بأن هذا التدافع الفكري هو سبيل التقدم، وانتصار الحق على الباطل، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: 251) ،وقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) .

ولو نظرنا إلى القرآن لوجدناه مَعرضاً لشبهات المشركين، وأهل الكتاب، والملاحدة، والدهريين، ومُحفزا لاستثارة الخصوم، واستفزازهم للهجوم، ليظهروا كل ما لديهم من علوم. قال تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148) ، وقال: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الأحقاف: 4) ،وقال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) .

أما منهج المشركين، والملحدين، والدهريين، والكتابيين فكان التجاهل، وعدم الاستماع للقرآن، مع التشغيب عليه واللغو فيه، من قبيل العناد و العدوان، وكان شعارهم : {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}. (فصلت: 26) .

لذلك كله، كان إقبالي على الرد عما يثيره الكيالي من لغو وتهويش، وعبث وتشويش حول القرآن وأحكامه.

سالت المذيعة الكيالي كيف تنكر تعدد الزوجات مع أنه موجود في القرآن !؟.

فأجاب بثقة (العالم المتمكن): لا أنكر، أنا عم أقول إرجعوا إلى الآية رقم (3) من سورة النساء إفهموها -يعني زي ما بقولوا إخواننا المصريون “إفهموها بقى”، ثم قرأ قوله تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا}، ثم قال: “إن.. شرطية جازمة، والفاء جواب شرط جازم، مثنى ، وثلاث، ورباع، طيب أين الأولى؟ يعني لو كانوا أربعة لقال: واحد، إثنان، ثلاثة، أربعة، إزن (يقصد إذن) الأولى(يقصد الزوجة) الله ما دَخّلْها، ثم ما طاب لكم من النساء فإن لم تستطيعوا أن تعدلوا ليس بين النساء، فإن خفتم ألا تعدلوا ليس بين النساء، لأن الآية (129) حسمت هذا الموضوع، {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم}، يعني بين أولادي وأولاد الأرملة اللي جايبتهم الأيتام الثانيين، إزن فتعدد الزوجات شرط أن تكون أرملة وعندها أولاد وحقق إقساطْ في اليتامى، لكن الضربة الصاعقة أن الله قال (فانكحوا) ولم يقل فتزوجوا، فالنكاح عدم لمس الأنثى، والدليل أن الله قال في سورة الأحزاب: {إذا نكحتم ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن}..” انتهى كلام الكيالي.

أما قوله: افهموا الآية (3) ففيه اتهام خطير للرسول صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه، وللتابعين وتابعيهم، بل فيه اتهام لكل العلماء والفقهاء؛ بل لكل المسلمين في كل العصور حيث لم يفهموا الآية -بزعمه- فهمًا صحيحًا ،وظلت الآية قرونًا طويلة مغلقة لا يُعرف تفسيرها، حتى جاء الكيالي  الوحيد الذي اختصه الله سبحانه بفتوح العارفين فأزال له قناع الريب عن مفاتيح الغيب!!. فأي عاقل يقول بهذا، وأي عقل رشيد يصدق هذا !!.

ولو كلف الكيالي نفسه فقرأ كتابًا من كتب السيرة النبوية -وهي التطبيق العملي لفهم نبينا للقرآن- لعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعين وتابعي التابعين وإلى يوم الناس هذا يتزوجون ويعددون من الثيبات والأبكار، دونما بأس أو تثريب، وأن الذي قاله باطل من القول وزور وعبث وتخريب. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}. [الكهف: 5]

ورحم الله حكيم العربية (المتنبي) الذي يقول:

وَكَمْ مِنْ عَائبٍ قَولا صَحِيحًا

وآفَتُهُ مِن الْفَهم السَّقِيمِ

ثم قال: عن قوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع} أن الله لم يذكر الواحدة، وهذه قلة أدب مع القرآن، فالقرآن نزل بلغة العرب وأساليبهم، ومعهودهم من الكلام، والكيالي غريب عن ذلك ، فلا يحق له أن يتكلم في تفسير القرآن وهو لا يعرف شيئا عن اللغة والبيان، ولكن-للأسف- صرنا إلى زمن كل أحد يتجرأ فيه على الدين ، وهذا كله من الهوان!

 ولله در الشاعر الذي يقول :

تصدَّر للتَّدريس كلُّ مهوّس

بليدٍ تسمَّى بالفقيه المدرِّس

فحقَّ لأهل العِلم أن يتمثَّلوا

ببيتٍ قديم شاع في كلِّ مجلس

لقد هزلت -حتَّى بدا من هزالها

كلاها وحتَّى سامها كلُّ مفلس

   الله سبحانه وتعالى يخاطب في الآية أصلا أصحاب الواحدة بقولهم: (مثنى) وأصحاب الثنتين بقوله: (ثلاث) وأصحاب الثلاث بقوله: (رباع)، وإذا خاطب أولئك المتزوجين فمن باب أولى أن يخاطب غير المتزوجين ،وقد قال بعض العلماء عن ابتداء الآية بكلمة(مثنى) فيه دليل على أن الأصل في الزواج هو التعدد، ومما يرجح-عنده- هذا المذهب أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا من المُعددين، وقد مضت السنة على ذلك، وقد رُوِيَ أَنَّ غَيْلَانَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ بَاقِيَهُنَّ.

 وَرُوِيَ أَنَّ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: “أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ وَاحِدَةً” .

 أما تفسير الآية الكريمة: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا}، فلا شك أن بينها وبين الآية التي قبلها مناسبة، فالله سبحانه يقول فيها: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}. يوصي الله سبحانه بالأيتام ، لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بلَا كَافِلَ لَهُمْ وَلَا معيل . وفي آية أخرى يقول: { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ}، وفي آية ثالثة: {فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}، نلاحظ في هذه الآيات اهتمام الإسلام البالغ، وعنايته الشديدة باليتيم، وحرصه على حفظ ماله وقوام حياته، وذلك لِما كان يقع عليه في الجاهلية من الظلم، ويصيبه من الإجحاف ، فقد وصل ببعضهم أنه إذا كان في حجره يتيمة أنه يحتال على أكل مالها بشتى الوسائل والسبل، حتى أنه كان يتزوجها. قالت عائشة-رضي الله عنها- في تفسير الآية: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا…الآية} هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا، إِلَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْكِحَهَا بِأَدْنَى مِنْ صَدَاقِهَا، ثُمَّ إِذَا تَزَوَّجَ بِهَا عَامَلَهَا مُعَامَلَةً رَدِيئَةً لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا مَنْ يَذُبُّ عَنْهَا وَيَدْفَعُ شَرَّ ذَلِكَ الزَّوْجِ عَنْهَا، فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ تَظْلِمُوا الْيَتَامَى عِنْدَ نِكَاحِهِنَّ فَانْكِحُوا مِنْ غَيْرِهِنَّ مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ} قالت: وقوله تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ}، الْمُرَادُ مِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا}. وقد وردت وجوه أخرى في تفسير الآية قريبة من هذا، تتفق مع روح النص، وتفسير القرآن للقرآن، وهم-الصحابة- أهل اللغة، وأهل الوحي، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

والآن نأتي إلى ما سماه الكيالي (الضربة الصاعقة)، قال: “، لكن الضربة الصاعقة أن الله قال (فانكحوا) ولم يقل فتزوجوا، فالنكاح عدم لمس الأنثى، والدليل-عنده- أن الله قال في سورة الأحزاب: {إذا نكحتم ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن}. انتهى كلام الكيالي.

ولا شك عندي أنها ضربة صاعقة، أن يهرف الرجل بما لا يعرف، وفوق ذلك يدعي بلسان حاله ومقاله ما ادعاه فيلسوف الشعراء المعري:

   وَإِنّي وَإِنْ كُنْتُ الأَخير زمَانهُ

لآتٍ بِمَا لَم تَستَطعْهُ الأوائِلُ

فوا عجبا كم يدّعي الفضل ناقص

ووا أسفا كم يظهر النقص كامل

وقال آخر:

أنا ابن عمار لا أخفى على أحد … إلا على جاهل بالشمس والقمر

إن كان أخّرني دهري فلا عجب

فوائد الكتب يستلحقن في الطّرر

وعلى كل حال أنا لست ممن يقول بأنه لقدم العهد يفضل القائل، ولا لحداثة العهد يهضم المصيب، ولكن يعطى كلّ ما يستحقّ.

نعم، إنها لضربة صاعقة أن تكون الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}.ۖ

وتأتي الآية على لسان الكيالي هكذا: {إذا نكحتم ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن}.

وإنها لضربة قاصمة أن يجهل القراءة، وإنها لضربة قاصمة أن يجهل التفريق بين النكاح والزواج، وإنها لضربة قاصمة ثالثة أن يأتي بدليل يكذب نفسه !!.

 أما تفسير الآية : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}، فقد اختلف العلماء في معنى لفظة “النكاح” في القرآن، فمنهم من رأى أنّ معناها الوطء، ومنهم من رأى أنّ معناها العَقد, وكُلٌّ صحيح على مذهبه، فمن فسرها بمعنى الوطء أتى بآيات يدل السياق فيها على ذلك، ومن فسرها بمعنى العقد استدل أيضاً بآيات يدل السياق فيها على ذلك، لذلك من الواجب أن نحقق هذه المسألة حتى نرى قيمة تفسير الكيالي للآية .

النكاح في اللغة: الضم والتداخل، يقال: تناكحت الأشجار: إذا انضم بعضها إلى بعض، ونكح المطر الأرض: إذا اختلط بثراها، وسمي النكاح نكاحًا: لما فيه من ضم أحد الزوجين إلى الآخر، ويطلق النكاح على العقد, ويطلق على الوطء، ويطلق عليهما جميعًا، فيقال: نكح فلان امرأة، أي تزوجها، ونَكحها أي باضعها.

وعلى هذا فإن سياق الآية هو الذي يرجح معناها؛ إن كانت بمعنى الوطء أو بمعنى العقد.

النكاح في القرآن بمعنى الوطء

           الآية الأولى: قال تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}. [الْبَقَرَةِ: 230]. نَفْى الشارع الحل من بعد الطلاق مرتين إِلَى غَايَةِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ الَّذِي تَنْتَهِي بِهِ هَذِهِ الْحُرْمَةُ لَيْسَ هُوَ الْعَقْدُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: “حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك”. كذلك فإن إضافة النِّكَاح إِلَى الزَّوْجِ حصر معنى اللفظة في الوطء لَا الْعَقْدُ، لِأَنَّ الرجل لَا يَتَزَوَّجَ بِزَوْجَةِ نَفْسِهِ، ولِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ.

ولَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ هُوَ مجرد الْعَقْدَ لَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ التَّحْلِيلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَحَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النِّكَاحِ هو الوطء .

الآية الثانية: قال تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ } [النساء: 6]. والمراد من النكاح في هذه الآية أيضاً الْوَطْءُ لَا الْعَقْدُ، لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْعَقْدِ كَانَتْ حَاصِلَةً أَبَدًا. والمعنى: اختبروهم قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في صلاح الدين، والتهدي إلى ضبط المال، وحسن التصرف، بأن يكل إليه مقدمات العقد. وقوله: {حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ}، حتى إذا بلغوا حد البلوغ بأن يحتلم، أو يستكمل خمس عشرة سنة .

الآية الثالثة: قَوْلُهُ تَعَالَى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً}. [النُّورِ:3] فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ هاهنا الْعَقْدَ لَزِمَ الْكَذِبُ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ النِّكَاحَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَطْءِ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ} أَيْ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا وَطِئَهُنَّ آبَاؤُكُمْ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَنْكُوحَةُ وَالْمَزْنِيَّةُ.

فَثَبَتَ بِهَذِهِ الآيات أَنَّ النِّكَاحَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَطْءِ، ولا نتطرق إلى المعنى الثاني من معاني النكاح، لأنه خارج عن موضوعنا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫11 تعليقات

  1. السلام عليكم دكتور أحمد,
    جزاك الله خيرا على هذا التوضيح ومهم في عصرنا أن نبقي عيوننا مفتوحه لمثل هؤلاء الشياطين في هذه الايام
    أقترح عليك إعطاء دروس مستمره في التفسير لأننا وللأسف أبعد ما نكون عن القرآن وتفسيره وانا لا استثني أحدًا إلا من رحم ربي.
    جزاك الله خيرا.

  2. بارك الله فيك دكتور.
    نعم سنة التدافع حتى في الفكر ضرورية وكنت أتمنى أن أرى الرد دون إدخال أحاديث ضعيفة ومنقطعة لأنها تضعف المقال .
    وأسعد الله صباحكم

    1. أشكر لك اهتمامك أيها الأخ الكريم علما بأن حديث غيلان صححه الترمذي من القدماء والألباني من المحدثين.

  3. مقالكم دكتور أحمد جاء كالسهم في قلب الباطل؛ فكشف تهافت تأويلات الكيالي، وأبان أن العبث بالنص القرآني ليس اجتهادًا بل طعن في فهم النبي ﷺ وصحابته والفقهاء عبر القرون. معالجة ثرية بالشواهد القرآنية واللغوية والحديثية، تعيد التوازن للمفاهيم وتؤكد أن مواجهة الشبهات ضرورة لا تقل عن بيان الحق، فالقرآن محفوظ، لكن عقول الناس تحتاج من يميط عنها غشاوة التضليل.

  4. شكرا علي التوضيح والفائدة
    نحن العامة نتوه في التشويشات التي تصدر عن بعض الساعين الي الشهرة بتطبيق مبدأ خالف تعرف
    الله المستعان

  5. أنت أكبر من هذا مولانا
    رد الذهب على الخشب يضعف قيمة الذهب مهما يكن الرد جليلا مكينا

  6. ما إن يبدأ الدكتور الزبيدي بخطِّ قلمه بدرره، حتى تغدو ككراتِ الثلجِ القطنيةِ المتساقطةِ على أسطحِ المنازلِ القرميدية المائلةِ، خفيفةً بيضاءَ نقيّةً… تخطف الأبصار و تحلق بنا لأجواء المعرفة و الحقيقة..
    وما إن يسترسل في نقشِ كلماته، حتى تتراكم كلماته ويكون لها وقعٌ وقرقعةُ الرعدِ على طبلةِ آذانِنا…
    مروءةُ وشهامةُ الدكتور الزبيدي أثارتا زوبعةً بداخله، أجبرته على أن يردَّ كيدَ الكيالي إلى نحرِه، خارجًا عمّا ألفْنا عليه من تعاليه على مناكفةِ سفهاءِ القوم و أراذلهم.. حتى لا يضيف اليهم رصيداً..
    فأسقطه أرضًا، بل وأدنى من ذلك..
    للهِ دَرُّك يا زبيدي..
    بوركت و زادك الله علماً و عافية..
    محمد عرسان
    مونتريال – كندا

اترك رداً على محمد عرسان - كندا إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى