مقالات

دراسات قرآنية ( 27) د . أحمد الزبيدي – الإمارات

(خَلْقُ القُرآن) المحنة (1)

د. أحمد الزبيدي

تحدثنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة المباركة (خلق القرآن)، بإيجاز؛ عن مَنشأِها، وبدء تاريخِها، وبيان أثرها من الناحية السياسية.

وفي الحلقة الثانية ألممنا بأدلة المعتزلة التي اعتمدوا عليها في اعتقادهم بأن القرآن مخلوق.

  وفي هذه الحلقة -الثالثة- نتعقب معاً آراء المستشرقين وآراء تلاميذهم من المضبوعين بثقافتهم من أبناء جلدتنا، وممن يتكلمون بألسنتنا، وممن يطيب لهم أن يتسموا بالتنويريين أو الحداثيين، أو أصحاب مشروع إعادة فهم التراث !!.

  تُعدّ محنة (خلق القرآن) من أخطر القضايا الجدلية الغامضة في تاريخ المسلمين، لا سيما أنها حدثت في عهد التنوير، وعهد طغيان العقل – في زعمهم- ،وهو شعار المعتزلة الذي ينازعون به جمهور المسلمين.  وعلى الرغم من ثبوت المحنة تاريخيا وتورط أطراف فيها سياسيا؛ وعلى رأسهم المحرك الرَّئيس؛ (المعتزلة)، إلا أن المستشرقِين منذ أن وُجدوا وإلى اليوم لم يزايلوا موقفهم الثابت حيال التراث وحيال قضاياه، فقد وقفوا منه وإزاءه موقف المغالط للحقائق، والمحرف للأخبار التي جاءت فيها. بل إن شيخ المستشرقين الألمان جوزيف فان إس- المولود عام ( 1934م)، والذي عُرف بإضماره الشر للإسلام، والمكر لأهله، كرس جزءا من حياته لأجل هذا الموضوع.

 وقد ألف فان إس مؤلفات سلط الضوء فيها على عظمة فكر المعتزلة-بزعمه-، مثل كتاب “فكر الحارث المحاسبي”، وكتاب “نظرية المعرفة عند عضد الدين الإيجي”، و”الثقافة الإسلامية القديمة”، و”كتابات معتزلية قديمة”، و”كتاب النُكت للنظّام”  و”بين الحديث وعلم الكلام”، وكتاب ملاحظات على نصوص البدع الإسلامية.

وقد قام د. محمد الشاهد بترجمة الجزء الخاص من حواره مع د. هانس كونج مدير معهد أبحاث توحيد الكنائس التابع لجامعة توبنغن، ثم أصدره بالعربية في عام 1994، في كتاب بعنوان “التوحيد والنبوة والقرآن في حوار المسيحية والإسلام”، ضِمن كتاب “المسيحية وديانات العالم” (صدر في ميونخ عام 1984). يقول الشاهد في تمهيد هذا الكتاب:” وجدير بالذكر أن موقف (فان إس) من الإسلام غير واضح تمامًا، فهو إذا تحدث عن الدين الإسلامي… نراه يأخذ موقفًا ناقدا قاسيا، خاصة إذا كان يتحدث إلى جمهور من المسيحيين”،  علماً بأنه أثبت إلهية القرآن، وأثبت نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ، ونبه على تحريفات الأناجيل، وأصول عقيدة النصرانية، وأنكر التثليث، وبنوّة المسيح، وعصمة البابا، وهذا مما يشكر عليه، غير أنه أسس لنظريةٍ تقوم على ثلاثة أركان، لا تستند على دليل، ولا تعتمد على برهان:

1-              تبرئة المعتزلة

2-             اتهام الإمام أحمد

3-             تسييس المحنة

ونحن لا نستغرب ذلك إذا فهمنا طبيعة العلاقة القوية التي تربط بين التأويل الحداثي للتراث وبين الاستشراق الفيلولوجي !.

أما التأويل الحداثي فمهمته إعادة تفسير النصوص بطريقة عصرية. معتمدا في ذلك على تقنيات حديثة في الدراسة والتحليل والاستنتاج.

وأما الاستشراق “الفيلولوجي” فهو: (علم التحليل الثقافي للنصوص اللغوية المبكرة)، وقد علا نجم هذا العلم الأخير في القرن التاسع عشر في سماء أوروبا، فتسابق المستشرقون على توظيفه، خدمةً لأغراضهم الاستشراقية، وتسهيلا لأهدافهم الاستعمارية، ومن ثم جعلوا الشرق وثقافته ودينه مسرحاً لدراساتهم.

 قال كبير المستشرقين (جولدزيهر) اليهودي المجري(1850 – 1921 م): “المهمة الرئيسة للمستشرق؛ هي دراسة تاريخ الشعوب الشرقية وثقافتها بأداة فيلولوجية سليمة”.

وقد غالى أصحاب جولدزيهر وتلاميذه في طريقتهم على أنها الطريقة المثلى  في دراسة الثقافات والأديان، وحسبوا أنها قادرة على كل شيء حتى جعل المستشرق رودنسون يغمز في ذلك الظن، فقال: “كان ثمة عيب رئيس؛ وهو الاعتقاد بكلية علم “الفيلولوجيا” ، كأن يأتي اختصاصي في اللغة الصينية -مثلا- فيعتبر أهلا لأن يكتب أعمالا عن الفلسفة الصينية ، وعلم الفلك الصيني، الزراعة الصينية، الخ”.

ويقول رودنسون صاحب كتاب (جاذبية الإسلام) : إذا كان علم “الفيلولوجيا” خاصًا باللغة فَأَنّى لشخص هذا تخصصه أن يكتب ويؤلف ويُنظِّر في العلوم الأخرى !!.

وقد لفت هذا الأمر صاحب كتاب (الاستشراق) الراحل إدوارد سعيد، فقال: “وبلا استثناء تقريبا، كان كلُّ مستشرق يبدأ حياته العملية باعتباره باحثا في فقه اللغة الفيلولوجيا”.

ولا نزيد على هاتين الشهادتين،  على أن الفيلسوف رينان (ت 1892 م) – الأب الروحي للاستشراق “الفيلولوجي”-، قد ملك عليه لبه، وشغل منه قلبه، وبالغ في احترامه وتقديره حتى أثنى عليه بقوله: ” من غير الفيلولوجيا لن يكون العالم الحديث كما هو عليه الآن، وقد مثلت “الفيلولوجيا” الفارق الأبرز بين القرون الوسطى والعصر الحديث”. ومن يقرأ كلام الفيلسوف آرنست رينان قد يخدع عن نفسه، ولكن إن كان ممن أسعده الحظ وقرأ شيئا من أعمال رينان فسيأخذه العجب العجاب، وتتملكه الدهشة والاستغراب؛ من حقيقة هذا الرجل وشدة بغضه للإسلام.

وحسبك من كلامه ما ذَكَرتْه أقرب الناس منه، وأحبهم إلى قلبه حفيدته المُدللة “بسيكاري”نقلا عن مذكراته المحفوظة في “المكتبة الوطنية”، حيث يقول: ” أنا المعروف بوداعتي مع جميع الناس، والذي أعاتب نفسي على عدم كرهي الشر، أعلن أنني لست أشفق على الإسلام، وإني أتمنى للإسلام الموت والخزي، أتمنى إذلاله”. وقد علق موريس أولندر على كلام رينان بقوله: “أما في ما يتعلق بالإسلام فقد أظهر رينان عنفا بشكل لا يصدق”.

ولو أخذنا بضرب الأمثلة على ذلك لضاق عنا هذا المقال. ورجلٌ هذا شأنه من الصعب توقع النزاهة والموضوعية في أبحاثه. ولله در الشاعر:

 تَرْجو النَّجاةَ ولَمْ تَسْلُكْ طَريقَتِها

 إنَّ السَّفينَةَ لَا تَجري على يِبَسِ

وقد رد على رينان عدد من فلاسفة الغرب مثل غوستاف لوبون في كتابه النفيس (حضارة العرب)، ومارسيل بوازار في  كتابه: (إنسانية الإسلام)، برنارد كارا دي فو، في كتابه : (مفكرو الإسلام)،  ودومينيك سورديل، في جملة من كتبه، فأنصفوا العرب والإسلام إنصافا عز نظيره.

ثم جاء الحداثيون العرب دهاقنة “مشروعات إعادة قراءة التراث” مثل فهمي جدعان، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وحسن حنفي، وعوض أن يعكفوا على دراسة التراث الاسلامي ويخرجوا بنتائج أصيلة جادة، أخلدوا إلى الأرض، ورضوا بالكسل، واستكانوا إلى ما يتساقط ويتناثر عن موائد المستشرقين ، فاستمدوا مادتهم العلمية منها ، وتحليلاتهم الفلسفية عنها، ثم جَدُّوا واجتهدوا وشمروا عن سواعدهم وتفننوا في إعادة إنتاج تلك الأعمال، وهضم تلك الأقوال، فمن ذلك بعض قراءاتهم الحداثية الجزئية للتراث التي تخصصت في موضوع محدد؛ مثل موضوع المحنة.

ولا جرم فقد اعترفوا بتلمذتهم على المستشرقين، فمحمد أركون (1928-2010م) اعترف أكثر من مرة بأنه مدين للمستشرقين في فهم القرآن.

قال أركون في كتابه (الفكر الأصولي):” تقدم الدراسات القرآنية  قد تم بفضل التبحر الأكاديمي الاستشراقي منذ القرن التاسع عشر”. وفي كتابه الآخر (قضايا في نقد العقل الديني) ذكر أركون أسماء هؤلاء المستشرقين الذين أسهموا في تقدم الدراسات القرآنية، وهو يدين لهم، مثل: نولدكة، وشاخت، وبمثل قول أركون قال الجابري، والشرفي، وحسن حنفي، ونصر أبو زيد، وعبد المجيد الصغير، ووائل حلاق، وغيرهم، غير أننا لا نريد أن نقف إلا مع فهمي جدعان وأطروحته في المحنة.

 سرُّ اهتمام المستشرقين بالمعتزلة:

في أثناء دراسة المستشرقين للفِرقِ العقدية في الإسلام، غرّهم قمرُ تعظيم المعتزلة للعقل وإنكارهم للقدر، ونظرتهم له على أنه إجبار للإنسان، فرأوا أنهم يشاطرونهم في تعظيم العقل، وتقديس حرية الإنسان، ورأوا فيهم نسخة فكرية من الليبراليين في عصر السلف، مما حمل المستشرق النمساوي (كريمر) على التعبير عن ذلك بقوله: ” لقد كشف لنا الشرق ذات النزاع الفكري بين المحافظين والليبراليين، بين الرجعيين والتقدميين، كما نسميه في لغتنا الحديثة، أو كما يسميه العرب قبل آلاف السنين: بين أهل السنة والمعتزلة”.

 أما المستشرق الأمريكي (شيد) فقد عبر عن ذلك في كتابه (الإسلام والكنائس الشرقية) فقال :” وحول هذه المسألة نشب جدالٌ مرير بين المحافظين والليبراليين المعتزلة”. وظل هذا الربط بين الليبرالية والمعتزلة يتردد ويُسمع صداه في أوروبا حتى بلغ إلى مسمع المستشرق الألماني (هورتن)، ثم تجاوزه إلى المستشرق مونتجمري فعبر عنه في أطروحته لنيل شهادة الدكتوراة عام 1943م  فقال: “لفت المعتزلة اهتمام الدارسين الأوروبيين منذ وقت باكر، بسبب الشبه بين كثير من وجهات نظرهم والفكر الأوروبي الليبرالي في القرن التاسع عشر، لقد ذهب هؤلاء الدارسون في حالات كثيرة إلى حد التطابق الكامل بين الفكر المعتزلي وفكر ليبراليي أوروبا في القرن التاسع عشر”.

 ثم جاء المستشرق الكندي (باتون) ونشر أطروحته للدكتوراة بعنوان: (أحمد بن حنبل والمحنة)، وقد شاء الله لي ان أقرأ هذا الكتاب منذ ما يزيد على الثلاثين عاما، وقد لفتني أنه درس حقبة تاريخية قصيرة بإسهاب زاوج فيها بين تطور المذاهب الاعتقادية والوقائع التاريخية، ولنفاسة الكتاب فإن المستشرق المجري جولدتسيهر أطرى عليه كثيرا، وأثنى على مؤلفه. فوصف الدراسة بأنها :”بحث قيم”، ثم وصف الإمام أحمد: “بأنه اضطهد، وأن اسمه صار شعار التعلق الشديد بالإيمان”.

قال الأستاذ ابراهيم السكران-فرج الله أسره- عن كتاب “باتون” :” وأهم ملمح في هذه الدراسة هي أنها اعتمدت على المعطيات التاريخية الإسلامية، واحترمت المصادر والمراجع، وبشكل ملحوظ قلل الباحث التحليلات التخيلية المعتادة للمستشرقين، والتي تحاول ملء الفراغات بالتخمينات المجانية، أو التي تسعى إلى إكراه المعطيات التاريخية وتهجيرها من أفق دلالي إلى أفق دلالي آخر…”، وكلام السكران-حفظه الله-لا يقوله إلا من وقف على حقيقة المستشرقين، وخفايا دراستهم، ودناءة غايتهم وخبث مقصدهم.

ثم جاء المستشرق الأمريكي الكبير (ماكدونالد) صاحب كتاب (تاريخ علم الكلام والفقه)، فوصف كتاب “باتون” بقوله :” كتاب باتون مساهمة متينة تضيء معرفتنا لتلك المرحلة، وأحد أهم الأمور في كتابه أنه ألقى الضوء على شخصية المأمون، وإنه لمن الغريب أن تجد نصيرا راسخا للفلسفة والعلوم يظهر كمجتهد”.

وقد ظلت دراسة “باتون” مرجعًا لكل من جاء بعده وأراد الكتابة في موضوع المحنة زمنا طويلا، ومن جهة أخرى فقد كشفت النقاب عن دعاوى المعتزلة الكِذاب، وتبنيهم لمنهج العَسْف والإرهاب!.

وقد صرح بذلك جولد زيهر -بعد أن اطلع عليها- فقال :”هل لنا أن نسمي المعتزلة أحرارا؟ يجب علينا أن نأبى عليهم هذه التسمية ..، حينما كان للمعتزلة الحظ في أن يكون مذهبهم هو المذهب الرسمي في عهد ثلاثة من خلفاء العباسيين، فرض هذا المذهب على الناس بقسوة التفتيش والتحقيق والإرهاب”.

ويقول “بروكلمان” وهو لا يقل شهرة ومنزلة عن نظيره “جولزيهر” :”لقد كان ثمة ميل إلى اعتبار المعتزلة ممثلين لتفكير لاهوتي حر يقوم في الطرف المقابل للسنة ، ونحن نستطيع أن نقطع على أساس ما بسطناه، بأنهم لم يكونوا أقل تعصبا من فقهاء السنة بحال، ولم يختلفوا عنهم في الأساليب”.

وهكذا ظلت حقيقة المعتزلة تظهر شيئا فشيئا، وتكبر أكثر فأكثر حتى صارت مثل كرة الثلج. ولقد بلغت منتهاها حين شارك المستشرق (نيبرج ) في دائرة المعارف الاستشراقية الأولى عام (1934م)، بمادة عن المعتزلة لخص فيها النتائج الاستشراقية الجديدة حول استبدادهم، وتعسفهم، واضطهادهم للمخالفين من أهل السنة، وهذا بلا شك يتنافى مع فكرة الحرية الليبيرالية وتوجهاتها.

أما المستشرق البريطاني -من أصل اسكتلندي- “مونتجمري” رئيس قسم الدراسات الإسلامية بجامعة أدنبره، والمحرر والمشرف على الدراسات الإسلامية في الموسوعة البريطانية فقد لخص رأي جماعة المستشرقين من دراستهم المعتزلة، كيف بدأت وإلام انتهت. قال: ” لقد ذهب هؤلاء الدارسون في حالات كثيرة إلى حد التطابق الكامل بين الفكر المعتزلي وفكر ليبراليي أوروبا في القرن التاسع عشر ..، ولقد أدت أعمال الباحثين ، خلال الحقبتين الأخيرتين ، خاصة أعمال د.نيبرج إلى تخليصنا من هذه الأوهام”.

ولم يقف الأمر عند هذا بل إن المستشرق “نيبرج” نفى عن المعتزلة صفة “العقلانية”.

بل إن المستشرقين جميعاً جردوا المعتزلة من الأوسمة والنياشين التي منحت لهم على عقلانيتهم المزعومة سابقا .

ويحضرني في هذا المقام حكاية الإمام الشهير (الحريري) مع الرجل الذي كان يسمع كثيرا عن عبقرية الحريري، حتى إذا زاره ليتلقى عليه شيئا من العلم، فلما رآه -وكان الحريري دميمًا- استزرى منظره، فأدرك (الحريري) ما دار في نفسه، ولما طلب الرجل من  الحريري أن يملي عليه شيئا من الأدب قال له (الحريري): أكتب! وأملاه هذين البيتين:

ما أنت أول سار غرّه قمر

ورائد أعجبته خضرة الدمن

فاختر لنفسك غيري إنني رجل

مثل المعيدي فاسمع بي ولا ترني

فخجل الرجل وانصرف عنه.

و(المعيدي) نسبة إلى معدٍ بسكون العين وتخفيف الدال، وهي قبيلة. وتصغيرها معيد.

والمعيدي نسبة إلى معدٍ بسكون العين وتخفيف الدال، رجلٌ من هذه القبيلة، كان فاتكًا يُغير على مال النعمان بن المنذر، فيأخذه ولا يقدرون على رده، فأعجب به النعمان لشجاعته وإقدامه فأمّنه. فلما حضر بين يديه ورآه، استزرى مرآته، لأنه كان دميم الخلقة، فقال: لأن تسمع بالمعيدي خير من أنَّ تراه!

والمعنى :إنَّ سماعك بالمعيدي خير من رؤيتك إياه، ويضرب هذا المثل للرجل يكون له صيت وذكر حسن، فإذا رأيته اقتحمته عينك، وكان عند خبره دون خبره. وقيل: معناه أسمع به ولا تره، على الأمر.

ولا غرو فقد ظلت صورة المعتزلة بعد نيربج مهزوزة في العقل الاستشراقي إلى نهاية الستينات في القرن العشرين، على أنّ المُستَشْرِقَيْنِ؛ الإيطالي (جابريلي) ، والفرنسي (سوردل) حاولا أن يتأولا تفسيرا آخر للمحنة، وهو إلباسها لباس(التشيع)، معتمدين في ذلك على ما فهموا من  ميول شيعية في المأمون، فبنوا عليها أنها هي المحرك الأساس وراء المحنة، غير أن هذه النظرية لم تلق قبولًا من سائر المستشرقين، وإن حركت فيهم الرغبة في دراسة المحنة من جديد.

بزوغ نجم (فان إس)

بزغَ نجم المستشرق الألماني (جوزيف فان إس) في منتصف الستينات، وكان معروفا بتعصبه للمعتزلة، فسعى جاهدا لتغيير الصورة النمطية عنهم، بغية تجميل صورتهم وتبديلها من صورة جلادين إلى صورة ضحايا، ومن صورة ظالمين إلى صورة مظلومين، واعتمد في تثبيت نظريته على أمرين:

1- نفي صفة الاعتزال عن كل من شارك في المحنة.

2- اتهام المرجئة والجهمية بأنهم هم من تولى كبر المحنة والترويج لها.

وقد اعتمد في أبحاثه -مثل سائر المستشرقين- على كتب التاريخ، والتراجم، والرحلات، وهذا مما يرفضه البحث العلمي الصحيح.

وإذا كان المستشرقان(جابريلي)         و (سوردل) قد حاولا تشييع المحنة معتمدين في ذلك على شبهة باهتة؛ وهي ميول شيعية بالكاد تظهر على المأمون، فإن (فان إس) هو الآخر أراد أن ينحاز للمعتزلة، ويغسل عنهم عار المحنة، ويهون من حجم محنة الإمام أحمد.

مع الفارق أن نظرية (فان إس) لقيت ترحابا مدويا من المستشرقين، واعتُمدت في دائرة المعارف الاستشراقية، وصارت هي الرواية الأساس الناسخة لكل ما سبقها من روايات، فأحمد بن حنبل البطل القوي، الصامد، الصخرة التي تحطمت عليها محاولات الخلفاء، والذي ثبت الله به دعوة الأنبياء، كما ثبتت على يد الخليفة أبي بكر الصدِّيق في حروب الردة، وهو في نظر -فان إس- ليس بطلًا، وإنما كان “جبانا رعديدا، متملقا للسلطان، وما تركوه إلا أنه أقر بخلق القرآن”.

وفي المقابل فإن الوزير ابن أبي دؤاد رجلٌ ورع طيب، وأنه على عكس ما يشاع عنه في كتب السنة؛ هو رجل كان يسعى لتخفيف العذاب عن أهل السنة، وأن المعتزلة الذين شاركوا في المحنة كانوا يقومون بواجبهم الوظيفي ليس أكثر.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. دكتور أحمد، شكرًا على هذا البحث العميق والموثق الذي يكشف خيوط التداخل بين السياسة والفكر في محنة خلق القرآن، ويضيء دور الاستشراق في إعادة صياغة الرواية التاريخية. لفتني سَعة اطلاعكم وحرصكم على تتبّع مصادر الاستشراق والحداثة العربية بدقة. مقال ثري يفتح آفاقًا جديدة للنقاش ويستحق القراءة المتأنية.

  2. هناك من احتفوا بالمعتزلة دون أن يفهموا منطقهم، ولعل الحفاوة مجرد خطوة تمهد لما بعدها، ثم ادعوا الأستاذية عليهم وأنهم انقرضوا لأن منطقهم لم يستطع الوصول إلى نهايته المنطقية وهي في نظرهم تاريخية النص المقدس، فهل هذا يعني أن انقراض عشرات من الفرق كان لنفس السبب؟ وأن استمرار البقية يعني زيادة انسجام منطقهم؟ في نظرهم طبعاً؟ والأهم هل يعني قدرة الليبرالية على الاستمرار رغم الكوارث التي صنعتها في البشرية والطبيعة أنها أكثر انسجاماً وعقلانية؟ أم أن الأمر لا يحتاج كل هذا التعقيد للاستمرار وأنه يكفي لذلك القدرة على إغواء هوى النفس البشرية كما تباهى بذلك يوماً زعيم الاستشراق المعاصر برنارد لويس؟ وهل ستتقبل قوانين الطبيعة هذا الاستمرار العبثي أم أنهم أعلنوا بأنفسهم وصول الحياة على الأرض إلى حافة الانهيار وحينئذ لن يتبقى من يتباهى بالاستمرار حتى القطرة الأخيرة؟

اترك رداً على شعبان صوان/ الكويت إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى