مقالات

وقفات مع المتنبي (53) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

فلسفة الصداقة والصديق عند أبي الطيب

د. أحمد الزبيدي

 

قال أبو الطيب المتنبي -رحمه الله- في “معجز أحمد ” (ص195):

ومن العَداوةِ ما ينالُك نفْعُهُ

ومنَ الصّداقةِ ما يضُرُّ ويؤْلِمُ

وقد أكد على هذا المعنى في بيت آخر، فقال:

وما الخيلُ إلاّ كالصديق قليلةٌ

وإنْ كثرتْ في عين مَنْ لا يُجرِّبُ

فالصداقةُ وما تستوجبه من رعاية ووفاء، ونصيحة ومودة وإخاء ، ومساعدة وبذل وعطاء، لها فلسفة خاصة عند المتنبي حكيم الشعراء، في حين أن الصداقة عند كثير من الناس قد ارتفع رسمها ، وعفا أثرها !

على أن هذا الفهم ليس حكرا على أبي الطيب، فقد شاركه فيه غيره من الفلاسفة والحكماء والشعراء، فقد أُثر عن الشاعر الحكيم (الخوارزمي)،  أنه كان يقول: اللهم نَفِّقْ سوقَ الوفاء فقد كسدت، وأصلح قلوب الناس فقد فسدت، ولا تُمتني حتى يبور الجهل كما بار العقل، ويموت النقص كما مات العلم.

وهذا الداء العَياء الذي شكى منه الخوارزمي داء قديم، والشكوى منه كثيرة ومشهورة.

ولعلَّ المتنبي-رحمه الله- كان يظن بأنه لا صديق، وأن الحياة خِلوٌ من الرفيق، وأنّ ظنه هذا آتٍ من فهم للحياة عميق. قال الشاعر والأديب عبد الرحمن شكري وهو يتحدث عن سر عظمة المتنبي: ” وهذه الحكم العديدة وأمثالها في شعر المتنبي ليست من الشعر التعليمي أو الوعظي الذي يصنعه المرء وهو ناعم البال، قرير العين، بارد العاطفة، وهو جالس إلى مكتبه يتأمل فيما تصف به الكتب والدفاتر أوجه الحياة، وأخلاق النفوس فيها، ولكنه تأمل المختبر المجرب، فهو شعر التأمل الذي تغري به العاطفة لا شعر التأمل الذي يغري به العقل في دعته أو مباذله أو عند مباهاته بالعلم ومفاخرته بالعرفان، فهو شعر حكمة يُبصِّرُ الشاعر فيها نفسه ويذكِّرها كي تتحمل الحياة بمعرفتها الحياة، وتتحمل الناس بمعرفتها أخلاق الناس. ومن كان شديد الاعتداد بالنفس والاعتزاز بها كالمتنبي كان في حاجة إلى هذه التبصرة والتذكرة بسبب ما يجشم الشاعر نفسه من معاناة الحياة والناس معاناة فوق معاناة القنوع التي لابد منها”.

ومثل هذه الخبرة في الحياة هي التي حملت حكيما مجربا مثل جميل بن مرة ضرسته الحياة يعتزل الناس، ويلزم قعر بيته، ويكون له من الجلاس، ولما عوتب في ذلك قال: لقد صحبتُ الناس أربعين سنة فما رأيتهم غفروا لي ذنباً، ولا ستروا لي عيباً، ولا حفظوا لي غيباً، ولا أقالوا لي عثرة، ولا رحموا لي عبرة، ولا قبلوا مني عذرة، ولا فَكّوني من أسرة، ولا جبروا مني كسرة، ولا بذلوا لي نصرة، ورأيت الشغل بهم تضييعاً للحياة، وتباعداً من الله تعالى، وتجرعاً للغيظ مع الساعات، وتسليطاً للهوى في الهنات بعد الهنات”. وقد عبر عن هذا المعنى أحد الشعراء فقال:

إخاء الناس ممتزج

وأكبر فعلهم سمج

وقد بكى الصابي قلة الإخوان والأصدقاء، فقال:

أيا رب كل الناس أبناء علة

أما تعثر الدنيا لنا بصديق

قال عمرو بن سعيد بن سلام: كنت في حرس المأمون ليلة من الليالي نائباً. فبرز المأمون في بعض الليل متفقداً من حضر، فعرفته، فقال لي: من أنت؟ فقلت: عمرو – عمرك الله – بن سعيد – أسعدك الله – بن سلام – سلمك الله – فقال: أنت تكلؤنا منذ الليلة. قلت يكلؤك الله.

فقال المأمون:

إن أخا الهيجاء من يسعى معك

ومن يضر نفسه لينفعك

ومن إذا صرف زمان صدعك

بدد شمل نفسه ليجمعك

ادفعوا إليه أربعة آلاف دينار، فوددت أن الأبيات طالت.

وقد عرف عن أبي الطيب المتنبي كثرة سفره وتجواله في البلاد، وقد عرف عنه تحققه وفهمه للعباد، فلم يكن يديم الإقامة في بلد إلا إذا كان له فيه أصدقاء، لذلك رأيناه يقول:

شر البلاد بلادٌ لا صديق لها

 وشَرّ ما يكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ

شر البلاد بلاد لا يوجد فيها من يؤنس بوده، ويسكن إلى كريم فعله.

وإذا نزل بلادا ليس فيها صديق سرعان ما تجده يحزم حقائبه وينطلق مسافرا ويقول:

وودّعتُ البِلادَ بِلا سلامِ…

هذه هي نظرة المتنبي إلى الصديق، ولكن ما الحيلة إذا كان هذه هي الحياة!

حينئذ تكون الحاجة ماسة إلى شيء من المداراة، فالحياة لا تستطاع إلا بالتعاون، وقد قالوا قديما: التعاون مورثٌ للتهاون، وقد عبر المتنبي عن هذا المعنى بأحسن بيان:

وَمن نكد الدُّنْيَا على الْحر أَن يرى

عدوا لَهُ مَا من صداقته بُد

يقول: من محن الدنيا على الحر، أن يرى عدواً له، ويظهر من صداقته، بحيث لا يكون من إظهارها بد.

قال الواحدي: ” النكد قلة الخير يقول ممن قلة خيرها إن الحر يحتاج فيها إلى اظهار صداقة عدوه ليأمن شره وهو يعلم أنه له عدو ثم لا يجد بدا من أن يرى الصداقة من نفسه دفعا لغائلته وأراد ما من مداجاته بد ولكنه سمي المداجاة صداقة لما كانت في صورة الصداقة ولما كان الناس يحسبونه صداقة ويجوز أن يريد ما من اظهار صداقته فحذف المضاف”.

قال الخوارزمي: مررت بمحمد بن موسى الملقب بسيبويه الموسوس وهو يقول مدح الناس المتنبي على قوله:

ومن نكِد الدنيا على الحرّ أن يرى … عدوَّا له ما مِنْ صداقته بُدُّ

ولو قال ما من مداراته أو من مداجاته بد لكن أحسن وأجود قال: واجتاز المتنبي به فوقف عليه وقال أيها الشيخ أحب أن أراك، فقال له رعاك الله، وحياك، فقال له بلغني أنك أنكرت على قولي: عدوا له ما من صداقته بد فما كان الصواب عندك؟ فقال له إن الصداقة مشتقة من الصدق في المودة، ولا يسمى الصديق صديقا وهو كاذب في مودته، فالصداقة إذن ضد العداوة، ولا موقع لها في هذا الموضع، ولو قلت ما من مدارته أو مداجاته لأصبت.

وفي “المرشد لفهم أشعار العرب” (ج : 4 ص 212)، قال د. عبد الله الطيب : ” وقد عيب على أبي الطيب المتنبي قوله:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عدوًّا له ما من صداقته بد

المعنى معها لأن «صداقته» أدق وأصح ههنا.

يرى العائب له أن «مداراته» مثلًا أصوب في هذا الموضع. ومن انشد هذا البيت بـ «عدوًّا له ما من مداراته بد» فإنه سيجدها نابية ويهديه إلى ذلك تهافت.

وفي هذا البيت من أسرار البلاغة أنه قدم المسند لحكمة إظهار التألم والتضجر.

وإلى معنى المتنبي ذهبُ ابن المبارك بقوله:

مَن دَليلي إلى طريقِ رَشادي

مضنْ مُعيني مَنْ طالبُ لي طَريقاَ

لم تزَلْ بي نَوائبُ الدهرِ حتى

ترَكَتْني لِمَنْ أعادي صَديقاَ

وقال المهلبي لبني أمية:

مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا

امشوا رويداً كما كنتم تكونونا

الله يعلم أنا لا نحبكم

ولا نلومكم أن لا تحبونا

وكتب أبو النفيس إلى العباداني: سبحان من لم يغنك عنا حتى سلانا عنك، ولا شغلك بغيرنا حتى عوضنا منك، ولا خار لنا في بعدك، حتى صنع لنا في فقدك، ولا هون عليك الوجد بنا حتى خفف عنا الموجدة عليك، ولا حظر عليك وصلنا حتى أباح لنا هجرك، ولا سهل عندك الرزء بنا حتى رفع عنا المصيبة فيك.

قال الأستاذ عمر الدسوقي في “الأدب الحديث” (ج : 1 ص310): ” وقد روي أن بعضهم اقترح على عبد الله النديم أن يعارض دالية المتنبي المشهورة التي مطلعها: فقبل النديم التحدي، وأنشأ قصيدة مطلعها:

سيوف الثنا تصدا، ومقولي الغمد

ومن صار في نصري تكلفه الحمد

ومنها يعارض بيت المتنبي:

ومن عجب الأيام شهم أخو حجا

يعارضه غر ويفحمه وغد

ومن غرر الأخلاق أن تهدر الدما

 لتحفظ أعراض تكفلها المجد

وليس هذا شعرًا صادرًا عن عاطفة أو فكرة، وإن هو إلّا مهارة لسانية، وإظهار لمقدرة كلامية، وقوة عارضة، وتوقد خاطر، وأثر الصنعة باد عليه، ولكن الشعر في عصر عبد الله نديم كان كذلك”.

غير أن الفارس قد يضطر إلى ركوب الثور في غياب الجواد:

وَمن ركب الثور بعد الجواد

الدولة أنكر أظلافه والغبب

يقول: من ركب الثور بعد الحصان عرف الفرق بينهما.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. تحياتي واحترامي وان صديقك من صدقك بتشديد الدال وفتحها وكذلك اخذ المعنى بالرفيق ولا يكون الرفيق رفيقا الا اذا حسن معشره وقد ابلغ المتنبي وتلك عادته في الشعر في هذا المجال .مقال اوضح وافصح وبلغ وتلك عادة دكتورنا الصديق احمد الزبيدي وخير رفيق وصديق من رافقك من الجنة الى الجنة وفي الجنة .الله يعطيك العافية وجزاك الله كل الخير مع المحبة والاحترام والتقدير تحياتي
    مهند الشريف

  2. السلام عليكم دكتور أحمد,
    لقد طرقت مفقودا وغائبا في عصرنا هذا ولربما أكثر العصور
    الله يرحمنا برحمته.

اترك رداً على شعبان صوان/ الكويت إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى