أقلام مجنحة
“لكَ أعماقُك.. ولِي شُموخي” قصة قصيرة وجيه حسن

وجيه حسن
بيومٍ شتائيٍّ عاصف، تحاوَرَا، تجادَلا.. بتأمّلٍ أسطوريّ، بلِ استعلائيٍّ بَيِّنٍ، رَنَا أحدهما الآخرَ، في البدْء نطق الجبلُ مُداعِباً البحرَ أمامه:
-
جاري العزيز.. ألمْ تتعبْ موجاتك اللّعوب من حركتَي المَدّ والجَزْر، من آلاف السّنين؟ لِمَ كلّ هذا التّعب والشّقاء؟ ثمّ ماذا جَنَيْتَ مِنْ هذا العمل المُضنِي الطويل؟!
نظر البحرُ الجبلَ نظرة مشُوبة ببعضٍ منِ امتعاضٍ ضاغطٍ قائلاً:
-
وأنتَ أيّها الجارُ العتيد، ألمْ تتعبْ قدماك من الوقوف كلّ هذه السّنين الطوال؟ ماذا كانت النّتيجة؟!
مُتطاوِسِاً تشامخَ الجبل، اشمخرَّ بأنفه، هزَّ عِطْفَيه بزهوٍ بادٍ، نطقَ بصوتٍ جبليٍّ خشِن:
– ألا تدري أيّها السّاذج المُتجاهل، أنّني أنا الكبرياء، والشّموخ، والعُلوّ؟ ألا ترى عيناك الزّرْقاوان الحاسِدَتان قامتي الشمّاء، وبدني المُتشامخ الضّخم؟ لذا فإنَّ الكثيرين من البشر وسواهم يرهبونني، وأنتَ – بلا شكّ – واحدٌ منهم!
باعتدادٍ مماثلٍ ردّ البحر، بعد أنِ انتفضَ سيلٌ عَرِمٌ من موجاته الغاضبات، معلنة عن استيائها وزمجرتها:
– أنسِيتَ أيّها الجارُ المُتصابِي المُتعالي، أنَّ لي غَوْرَاً عميقاً، لا يقلُّ شموخاً عن شموخك، فأنا – بلا مبالغة – لستُ سطحيّاً أو هامشيّاً، كما تظنّ، وكما يدّعي المدّعون المُرْجِفون أمثالك، ألا تعرف أنّ أغواري، تخيفُ أعتَى السّفن، وأقوى السبّاحين؟!
هزّ الجبل المُتشامخ ذروةَ قمّته، مُعبّراً عن انزعاجٍ واضحٍ باصِمٍ.. بثقة عالية، قال:
– هل نسِيتَ، أو تناسَيتَ، أيّها البحر الهائج الأرْعن، أنّ في بطني كنوزاً من معادنَ غالية، وثرواتٍ طبيعيّة، لا يعلم قيمة أثمانها إلّا الله، والرَّاسِخون في معرفة أسرارِ الجبال، أعني العلماء المخُتصّين؟!
ساخراً، مدَّ البحرُ ألسنةَ موجاتِهِ الغاضبات، نَبَسَ:
– كلامُك هُرَاء يا صاحبي، لأنّك تعامَيت عمّا في جوفي من كنوزٍ ولآلئ بَحْرِيّة، يبحث عنها الصيّادون والمُكتشِفون المَهَرة، ليبيعوها في أرجاء المعمورة المُتراحِبة، بأغلى الأثمان.
ظهرت معالمُ ضجرٍ وَضِيءٍ على وجه الجبل، على ترابه وصخوره وحصواته، نطقَ بشيءٍ غفيرٍ من صلفٍ واعتداد، قال:
– أيّها البحر السّاذج المسكين، لكَ أعماقك، ولِي شموخي وتطاوُلي.. الصفة التي تميّزني عنك، والتي تريح أعصابي صباح مساء، أنّني أطلُّ عليكَ منْ عَلٍ، وأنتَ ممتدٌّ أمام بصري تحت السّيطرة، أراقبُ بدقة متناهية كلّ حركاتك وسكناتك، فأنا العلوّ، وأنتَ المُنْحَدَر، أنا الشموخُ وأنتَ السّفح.
بألمٍ مُمِضٍّ بادٍ، نظر البحر، تدافعت كُتَلُ أمواجه الغاضبات، تلطم أقدامَ الجبل، ومُنعرَجاتِ سَفْحِهِ، تعبيراً عن قهرٍ واضح، لكنّه باعتدادٍ وكبرياء غَفيرَين، قال:
– لا تنسَ أيّها الجار المُتعالِي، غير العزيز، أنّ السّماء تكرمني أشهراً عدّة بالسنة، حين تضيف لِموجاتي موجاتٍ جديداتٍ، ثمّ أنسِيتَ – أيّها المُتغافِل المُتغابِي – أّنّ السماءَ الطّهور المِعطاء، تجودُ عليَّ أوّلاً بمطرِها العميم، تعبيراً عنْ حبّها واعتزازها ودَلالها، أمّا أنت، فتأتي بكلّ توكيد بالمرتبة التالية، بربّك قلْ لي، أليس السّحابُ الماطرُ، يُدلّلُني أكثر منك، ويزورني قبلك أيضاً؟!
ردّ الجبل، وسيوفُ قهرٍ تَتعاورُهُ من قمّة رأسه حتى أطراف سَفْحِهِ:
– أنسِيتَ أيّها البحر المُعانِد المُشاكِس، أنَّ جسدي يستقبل المطرَ الطّاهر الوفير قبل استقبالك له، وأنّ ماءَ السّماء، هو لي أوّلاً، ولكَ ولِغيرِنا من الكائنات الحيّة تالياً.. فأنا تخضوضِرُ صورتي، حين تهبنُا السّماءُ خيراتِها، ومطرَها الوابلَ الغزير.. أنتَ لا تعترف، أنّني، حين يسقط المطر مِدراراً، أتلقّف الماء النّظيف أوّلاً، قبلَ غيري من الكائنات، وأنتَ واحدٌ منهم بكلّ توكيد!
قالَ البحر: …
قالَ الجبل: …
قالَ البحر: …
قالَ الجبل: …
قالَ البحر: …
قالَ الجبل: …
قالَتْ قطرةُ مَطرٍ بيضاء حِياديّة:
-
بلْ أنا وأخواتي لكَ ولهُ، ولكلِّ الكائنات الحيّة، وسواها.. من المَعِيب، أنْ يتطاوَسَ أحدُكما على الآخَر، أو يستهزئَ به، أو يعاندَه، أو يسيءَ إليه، فالجارُ أخٌ للجار.. ثمّ هلْ نسِيتما، أيّها العزيزان، أنّكما تعيشانِ في وطنٍ واحدٍ، وأنتما من الأرُومةِ ذاتها، ومن الجذورِ عينِها، في هذه الأرض الطيّبة، أرض الرّسالات، والأنبياء، والشّهداء؟!