مقالات

“المُلهِمَةُ” قصة طاهر عصفور .. القارئ يجد نفسه في مواجهة لغز مثير للحنق

دلالة على تفسخ المجتمع المصغر والذي هو صورة مصغرة عن المجتمع الأكبر

قراءة نقدية : كنانة حاتم عيسى

.الثيمة المغيبة

إن النصوص التي تبدأ عادة بالحوار، حوار يتجاذب وجهتي نظر، أو اتجاهين متضادين، أو انفصامًا نفسيًٍا، تشد انتباه القارىء نحو فكرة محددة، إنه انحراف معرفي نحو تبئير خاص، يريد به الكاتب الابتعاد عن دلالة العنوان القصدية والمباشرة. إن البراعة تكمن في نصب شرك للمتلقي المتوهم بفداحة حقيقة النص، من حدث ضبابي لا ملامح له، من هوية سارد فاقد لمصداقيته ومن لَبس غائيٍّ بؤرته ثيمة جديدة ظاهرها تأزم هوية المبدع المعاصر وصراع انتمائه في مجتمع الرداءة الفاقد للمعايير، أو المرتبط برمزية واهية وفارغة وباطنها توثيق غرائبي لوضع متأزم يختصر في مشهدية ضبابية عارية من التخصيص الزمكاني قلق وعي عام، و يختصر مشهدًا كبيرًا يحتدم فيه الصراع دون جدوى.
خدعة الثيمة الظاهرة

يشد الحوار الاستهلالي انتباه القارىء، فيخيل له إنه حوار قائم بين شخصيتين لصيقتين، صديقين ربما، تنتميان لمجتمع النخبة، النقد التشكيلي والفن والمجتمع الممسوخ المنبهر بالنجمة الغائبة التي ينتظر قدومها الجميع، إنها المعيارية النموذجية الجديدة من يسلط عليهم الضوء، لكن الطرف القائم من الحوار هو الذي يبدو الناقد المتعالي الذي يوجه استعلاءه نحو السارد ذي الشخصية المهزوزة الباحثة عن كيان حاضن للوجود، المستعد للتخلي عن اعتقاداته في سبيل القبول والاندماج، وهلامية المواقف الفاقدة للمعنى، التوجه في غياب حقيقي للبوصلة الإبداعية التي فقدت قدرتها على التوالد في ضياع منظومة الأصالة، وبروز مفهوم تقديس الرموز التافهة في الفن والادب والثقافة.

يبتكر الكاتب حدث الابتسامة ظاهرًا للنص رغم إن الصفعة المنتظرة هي الباطن المرجو له، فالسارد مذعن ومتواطىء ضمنًا مع الحشود التي تنتظر بفارغ الصبر القبول والإشادة من (حدث وصول النجمة الغائبة التي ستلهم كلماتها جيش الفنانين المنتظر) وما رفضه المبدئي الا مداراة لرغبة عارمة في المكوث تحت بقعة الضوء، ورغم ان ملامح شخصية النجمة غائبة عن المشهد، الا ان الكاتب وظفها ببراعة لتستنبط إدراكًا التلقي لبواطن السارد المشوشة، التي يزيدها الصديق المتعالي الغامض ضراوة، وكما ورد في النص:

“يَصمُت كَثيراً لكنَّه إذا تحدَّث لا يدَع مَجالاً لأيٍّ منَّا
للتَّعليق.”.

بالطبع يجد القارىء نفسه في مواجهة لغز مثير للحنق، فالسارد يفعل ضد ما استهل به سرده، وسيحشد كسواه طاقته الابداعية لكسب استحسان المرأة الرمز، مسايرا لغريزة القطيع، وسيساق السارد برغبته الشديدة في الظهور نحو فخ انفصامه الداخلي الذي يبدو أكثر وضوحا الآن، وسيظهر لنا كمجتمع تلق، ان صوت الاستعلاء الناقد هو الوجه الآخر للعملة المتداولة في عوالم النخبة، سيضطرم الصراع الداخلي، ويعلو وطيس التأزم، وسيحتدم الاختلاف بين الصوتين المتصارعين لندرك أن السارد المنفصل عن ذاته، يتصل بأناه من خلال الصراع، وكانه يمثل أطراف المجتمع المتناحر في صراعه نحو الفناء، إن لغة الإبداع هي لغة تواصل وجدانية لا تنفصل عن الواقع ، فما الصوت الآخر الذي يقول عنه الكاتب في سياق النص:

(فأنا أعرفهُ منذُ الصِّغر)
الا صوت السارد ذاته، أنه
يصغي لصوت التهكم الحاقد والسخرية المنبثقة من واقع التهميش في أعماقه، انه صوت الرفض والنقمة، صوت الحقيقة المكتوم الذي يغلي تحت صمت العجز، في السياق المفترض، إنه الرفض الصامت الذي يبرر (الصفعة) ويكيل الاتهامات لفحوى الابتسامة ويقلب المفاهيم جميعها.

الدلالة في النص

“الملهمة” هي دلالة على تفسخ المجتمع المصغر والذي هو صورة مصغرة عن المجتمع الأكبر، الذي يقدمه لنا الكاتب بذكاء شديد،مقاربا بموضوعة مختلفة همًا اعمق واشد ضراوة في الهامش الواقعي المحاصر بالحروب والهزال والفساد والدمار، الوضع الاقتصادي المتآكل، وببراعة حذقة لانه غلف الزمكان بهالة الحدث المتماه، وجعل الخط الزمني للأحداث مرتبطا بجوهر الحدث (انتظار الصفعة وتأو يل الابتسامة) وليس أسبابه ونتائجه أو شخوصه وتطور سلوكهم الدرامي، متيحا المجال لدراسة الظاهرة المجتمعية المقلقة في المجتمع الاعم كترميز ذكي، في موضوعة مغيبة الوجهة، ضمن سرد قصصي بارع، يمثل الشريحة الأصغر الفاسدة والمتهتكة بكل تداعياتها وإرهاصاتها، وان كان ذلك قد نمذج سابقا في اعمال روائية عربية ، فان نجاحه في توظيف القص القصير مثل لنا انموذجا مميزا في قصة (الملهمة)، المرأة الرمز، الايقونة المزيفة التي يتشدق بجمالها المتملقون، المزيفون، التافهون في أزمنة (الحروب القادمة)، الحلم الذي لا يستطيع (العادي المنفصم في ذاته) الوصول إليه بابتسامة بل بطعنة مدوية على شكل صفعة. في زمن غدا فيه صوت الحقيقة مرفوضا ومقموعا ومغيبا، وحده الصمت هو
لغته المفترضه وكما ورد في النص:

حين ذاك توقَّفَ صديقِي الفنّان عن الكَلَام، بدت ْعينَاه تريَا ما لا أراهُ،

دام القلم المميز المبدع الذي انتج لغة خطاب واثقة فريدة وسردا مميزا ناضج الرؤية وثيمة جديدة عوملت بتمكن ونجاح من خلال جنس القصة القصيرة بتجديد وفنية عالية وعن سبف رصد وموهبة.

_________________________

“المُلهِمَةُ” قصة طاهر عصفور
– احتشدَ الجميعُ، تهيَّئوا جيِّداً رأيتُ ذلكَ في حركاتِهم المُتلَهِّفَة المَمزوجَة بعِطرهِم الكاذبِ، أرادَ الجميعُ التَّرحيبَ بالنَّجمةِ القادمةِ بعد غيابٍ.
– أحمق! …. فليحتَشدوا، لا تَحفلْ أنت! ألم تقُل لي بأنَّ لديكَ مشروعُكَ الخاصُّ.
– لا تُقَاطعنِي و دَعنِي أُنهي كلامي.
سكتُّ على مضضٍ، و ابتلعتُ لِساني فأنا أعرفهُ منذُ الصِّغر، يَصمُت كَثيراً لكنَّه إذا تحدَّث لا يدَع مَجالاً لأيٍّ منَّا للتَّعليق.
– احتشدتُ و رسمتُ لوحةً ألهَمُتها كلماتِها، حاولتُ بكلِّ طاقَتي، سهِرت أياماً أفكِّرُ بالألوان و الأبعاد و التَّناسُق، اجتهدتُ، تعرَّقتُ و غرِقتُ داخلَ نفسِي، تفرَّستُ في كلمَاتِها لأضعَ قطعَةً من رُوحي داخلَ إطار ٍ.
في الموعدِ المحدَّد حضَرتِ النَّجمةُ، تنافسَ الجميعُ في محاولةِ لفتِ نظرِها لكنَّها عاملَتِ الجميعَ بحذرٍ و برودٍ، عندما حان َدوري نظرتْ إلى لَوحتِي ثمَّ ضحِكَتْ.
– جميل!..
بما أنَّها ضحكتْ فهذا شيءٌ جَميل.
نظر إلى السَّماء الَّتي كان يسدُّها سقفُ الغرفةِ، و ابتسمَ ابتسامةً غَريبة.
– نعم جميلٌ، ولكنْ ليس كما تتصَوَّر أنت، ضحكتْ ساخرةً يا صديقي!
أحسستُ بذلك، كانتِ المحطّاتُ التِّليفزيونيَّة حاضرةً و بثَّت تلك الضِّحْكة َعلى الشّاشات، راجعتُه أكثر من مرَّةٍ حتّى كدتُ أحفظُ تقاسيمَ وجهها و نظراتِ عينَيهَا.
شعرتُ بما يرمي إليه، فتوتّرتُ، كانت حساسِيتُه مفرطَة منذ الصِّغر، يغضبُ على سببٍ نظنُّه تافهاً ولكنَّه عند شرحهِ نُدْرك فداحةَ ما ارتكبنَا، كما أنَّ اللّه حباهُ عيناً فاحصَةً تُدرك ما خلفَ الجسدِ، فلنْ تستطيعَ خداعَهُ، سيظهرُ ذلك َفي قولِك أو حركاتِك و سيكشِفُكَ و يعرّيكَ أمامَ نفسِك.
– يا سلام …. و مَن تظنُّ نفسَك ….. فرويد !؟
ابتسم َحين ذاك و أعاد نظرهُ إلى وَجهي فتوقَّفْتُ عن الكَذب، ثمَّ عاد إلى كلامِه
– شعرتُ بالنّار تسري في عُروقي لتستقرَّ في مُنتصَف القَفصِ الصَّدريِّ يا صديقي، نارٌ لا تخبُو ولا تنامُ، لذلكَ يجب أن أصفعَها.
– هل أنتَ مجنونٌ هَل ستضربُ أمرأةً !؟ ونَجمةً أيضاً؟!
كانت عيناهُ جامدتَان لأوّل مرةٍ كمن يسترجعُ أمراً ما.
– متى ستخرَسُ يا هذا!
الصَّفعَةُ لها عدَّة معان ..ما علينا .. سأجتهِد.. سأحسِّن أدواتي… سأكتَشف العالَم من خلال عينيَّ، سأبحثُ داخلَ ذاتي عن طريقةٍ لأخلِّد المَشاعرَ فيها بطريقةٍ فريدَةٍ، سأتعرَّق ؛ لن أتعبَ، سأضعُ ضحكتَها نصبَ عينيَّ، و سأحاولُ بكلّ ما أوتيتُ من قوَّةٍ أنْ اجعلَها بُكاءً مريراً لا يتوقّف.
– يا رجل؛ انضج؛ هل ستكرّس حياتكَ من أجل ضحكةٍ ظهرَت من نَجمَةٍ … لا تدري ما سبَبها.
أراح صديقي الفنُان ظهرَهُ و تمطّى قليلاً، مرّر يدهُ خلالَ شعرهِ القصيرِ، ثمَّ ابتسمَ
– أحبُّ التَّجَاهلَ و السُّخرية، إنّهُما وُقودي، سَيظنُّون أنِّي عاديٌّ مثلَك، أبتلعُ الإهانةَ و أمضِي، لا يدرون بأنَّ كلَّ كياني قام على الرَّفض، هنا تكمُن فُرصَتي يا صديقي، كلَّمَا زاد تجاهُلُهم و سُخريتهُم منّي كانتْ صفعةُ الإبهارِ مؤلمةً.
حين ذاك توقَّفَ صديقِي الفنّان عن الكَلَام، بدت ْعينَاه تريَا ما لا أراهُ،
يحدّق في البعيدِ بكامِلِ تركيزه، تنفُّسُه بطيءٌ؛ بقيَ على تلكَ الحالة لمدَّةٍ تزيد عن خمسِ دقائقَ.
حاوَلتُ لومَه على وصفه لي بالعاديِّ و ذكرتُ لهُ حالَ البلدِ و النّاس و الحُروب القَادمَة، لكنَّه لم يحْفَل.
كانتْ عيناهُ تدوران في ملكوت آخر، لوهلةٍ أحسَستُ بلهيبِ الضّحكةِ يخرجُ من صدرهِ و دويُّ الصَّفعةِ يرنُّ في أذُني.

الأردن 7/اكتوبر/2024

.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى