مقالات

دراسات قرآنية (13)                     د . أحمد الزبيدي         –         الإمارات

رد الإمام  الفخر الرازي على المعتزلة (ج2)

 

د. أحمد الزبيدي

 

  سبب التسمية

ذهب أكثر العلماء إلى أن سبب التسمية(المعتزلة) يرجع إلى ما وقع بين الحسن البصري رحمه الله وواصل بن عطاء من خلافٍ في حكم مرتكب الكبيرة، حين سُئل الحسن البصري عن ذلك، فبادر “واصل” إلى الجواب قبل أنْ يُجيب “الحسن”، فقال: مرتكب الكبيرة ليس مؤمنا وليس كافراً، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، وهذا القول أخرجه عن قول الأمة بأسرها،  ثم تطوَّر الأمر إلى اعتزال “واصل” ومَنْ معه حلقةَ شيخه الحسن البصري فسُمُّوا بذلك الاسم.

ولا نحتج على كلام واصل بن عطاء بصريح الآية الكريمة:{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.

قال الإمام الفخر الرازي :”احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِمَّا مُؤْمِنٌ وَإِمَّا كَافِرٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ كَمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ، فَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى قَسَمَ أَهْلَ الْقِيَامَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ يَبْيَضُّ وَجْهُهُ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْوَدُّ وَجْهُهُ وَهُمُ الْكَافِرُونَ وَلَمْ يَذْكُرِ الثَّالِثَ، فَلَوْ كَانَ هَاهُنَا قِسْمٌ ثَالِثٌ لَذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا وَهَذَا أَيْضًا مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}. [عَبَسَ: 38- 42]

 على أن أبا الحسين الطرائفي (ت 377ه) رجّح أن أصل المعتزلة كانوا من شيعة سيدنا علي -رضي الله عنه- ، فلما خلع الحسن قميص الخلافة وألبسه معاوية، اعتزلوا الناس، ولزموا المساجد للعبادة .

والحق أن تحقيق سبب التسمية وتأريخ نشأة الكلمة لا يحقق كبيرة فائدة؛ بقدر درسنا وتحقيقنا لأفكارهم، ومحاكمتها إلى ما نرتضيه من أحكام وما يغلب على ظننا أنه صحيح وعير أوهام !

من المتفق عليه عند المعتزلة وخصومهم جميعًا أن رؤوس الاعتزال خمسة، وقد ترجمنا لهم باختصار في المقال السابق.

وقد ذكر صاحب “الفَرْق بين الِفرَق” -ص 114- :” أن أول من نفى القدر هو معبد الجهني المتوفى 80 هـ ، ثم جاء بعده غيلان بن مسلم الدمشقيّ (ت بعد 105 هـ) وتنسب إليه فرقة “الغيلانية” من القدرية.

وعن معبد أخذها واصل بن عطاء (ت 131ه).

ومَعنى قولهم :”الأمرُ أنُفْ”: إنكارُ كون الله سبحانَه وتَعالى عالِمًا بأعمالِ العِبادِ قبلَ وُقوعِها، وإنَّما يَعلَمُها بعدَ وُقوعِها. قال صاحب الفرق بين الفرق؛ عبد القاهر البغدادي(ص 18) :” وأما الْقَدَرِيَّة الْمُعْتَزلَة.. فقد افْتَرَقت عشْرين فرقة كل فرقة مِنْهَا تكفر سائرها”.

غير أن القاسم المشترك بينها هو فيمن يسمون به معتزلي؛ -كما قرر ذلك القاضي عبد الجبار، والخياط ، وكل من يعتد بقوله من أئمتهم- يتمثل في اعتقاد وتبني أصولهم الخمسة وهي : التوحيد، والعدل ، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

وهذه الألفاظ التي اتخذوها عَلما على مذهبهم، وشعارا على فرقتهم ليست خاصة بهم إذ أن التوحيد ، والعدل ، وسائر الأصول التي تنادوا بها هي مباديء عامة لكافة المسلمين، غير أن تفسيرهم ومفهومهم لها يختلف عما هي عليه عند أهل السنة والجماعة!

فعلى سبيل المثال؛ مفهوم (التوحيد) وهو أهم مفاهيمهم، وأس أصولهم، هو كذلك عند جميع المسلمين ، غير أن المعتزلة -كما قلنا- لهم فهوما وأحكاما خاصة بهم، لا يشاركهم فيها غيرهم من الفرق والمذاهب والجماعات .

  • فهم ينفون صفات المعاني عن الله سبحانه؛مثل السمع، والبصر، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والحياة. ويثبتون لله تعالى آثارها؛ من كونه سميعا، بصيرا، عليما، قديرا، مريدا،…الخ.

ومعنى كلامهم؛ أن الله سبحانه وتعالى يعلمُ دون أن تتحقق له صفة اسمها العلم، ويقدرُ دون أن تتحقق له صفة اسمها القدرة.

وهنا ثمة سؤال، ما لذي حملهم على هذا الخطأ في التفسير، وما الذي جرهم إلى هذا التعسف في التأويل؟!.

الجواب: إن الذي حملهم على ذلك-حسب قولهم- تخيلهم بأن إثبات صفات المعاني لله جل وعز، تقتضي القول بوجود قدماء (أي شركاء) لا أول لهم مع الله سبحانه، مما ينافي توحيده ، فالله سبحانه لا يشبهه ولا يشترك معه غيره في شيء من صفات الألوهية؛ وأهمها صفة القدم .

وقولهم هذا فيه من التمحل ما يرفضه العقل ، ويأباه العلم. فالصفة معنى لا يقوم بذاته ولا وجود له إلا بوجود من يتصف به. فإذا نسبنا لله صفة العلم مثلا، فإن هذه الصفة ليست شيئا قائما بذاته حتى يستلزم وصف الله به القول بقديم آخر غير الله سبحانه يقوم إلى جانبه. وإنما هي معنى من المعاني لا تتجلى إلا في عالمية الله تبارك وتعالى وكونه عليما. وهكذا الصفات الأخرى.

كذلك؛ فإن القرآن الكريم نسب إلى الله سبحانه صفة العلم، وَوَصفهُ بكونه عالما أو عليما. فقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ}. [الْبَقَرَةِ: 255] وَقَالَ تعالى: {وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فصلت: 47] وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}. [الطَّلَاقِ: 12] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}. [لُقْمَانَ: 34]

وقد عقد الفخر الرازي في تفسيره بابا باسم:” الأسماء الحاصلة بسبب العلم”. قال رحمه الله :” فِي الْأَسْمَاءِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ الْعِلْمِ، وَفِيهِ أَلْفَاظٌ:

الْأَوَّلُ: الْعِلْمُ وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ، وَفِيهِ وُجُوهٌ:

 الْأَوَّلُ: إِثْبَاتُ الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ}. [الْبَقَرَةِ: 255].

 الِاسْمُ الثَّانِي: الْعَالِمُ، قَالَ تَعَالَى: {عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ}. [الزمر: 46].

الثَّالِثُ: الْعَلِيمُ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.

 الرَّابِعُ: الْعَلَّامُ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}.  [الْمَائِدَةِ: 116] .

الْخَامِسُ: الْأَعْلَمُ، قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ}. [الْأَنْعَامِ: 124].

 السَّادِسُ: صِيغَةُ الْمَاضِي، قَالَ تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ}. [الْبَقَرَةِ: 187].

السَّابِعُ: صِيغَةُ الْمُسْتَقْبَلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ}. [الْبَقَرَةِ: 197] وَقَالَ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ}. [النَّحْلِ: 19].

الثَّامِنُ: لَفْظُ عَلَّمَ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها}. [الْبَقَرَةِ: 31]. وَقَالَ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ {سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا}. [الْبَقَرَةِ: 32] وَقَالَ: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}. [النِّسَاءِ: 113] وَقَالَ: {الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ}. [الرَّحْمَنِ: 1، 2] .

كذلك؛ نفي إمكان رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، لأنها-برأيهم- تقتضي صفة الجسمية وأن يكون مُتَحَيِّزًا في جهة.

ولا يخفى على المتأمل أن كلامهم هذا أيضا فيه من التهافت والتكلف ما يأباه الوحي ويرفضه والعقل؛ فهم يقولون بأنه من الْمُحَالِ رؤية الله تعالى يوم القيامة بأبصارهم، وهذا صحيح لو أن الناس يرون ويباشرون الرؤية بأبصارهم المحدودة كما هي الحال في الدنيا، ولكنهم ينظرون ويرون بأبصارٍ أودع الله فيها طاقات وإمكانات تمكنها من ذلك.

   فالقوانين التي تحكم حياتنا في الحياة الدنيا ستتغير وتتبدل، لتحكمنا قوانين أخرى تناسب تلك الحياة، على أن نصوص الوحي قد قالت كلمتها في الموضوع. قال تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ). [الْقِيَامَةِ: 22، 23]. وَأَلْفَاظُ الْمُفَسِّرِينَ مُخْتَلِفَةٌ فِي تَفْسِيرِ النَّاضِرِ، وَمَعْنَاهَا وَاحِدٌ قَالُوا: مَسْرُورَةٌ، نَاعِمَةٌ، مضيئة، مسفرة، مُشْرِقَةٌ بَهِجَةٌ.

وقوله : {إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) . قال الفخر الرازي: ” جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وقال تعالى يصف حال الكافرين يوم القيامة: { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ). [الْمُطَفِّفِينَ: 15، 16].

قال أنس بن مالك في هذه الآية: «لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه». وقال الشافعي: «لما حجب قومًا بالسخط دل على أن قومًا يرونه بالرضا» ، ثم قال: «أما والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا».

على أن بحث الرؤية يحتاج إلى مزيد بيان، لذا سنخصص له مقالًا خاصًا إن شاء الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. و الله انا يا سيدي قبل ان اقرا مثل هذا المقال و احلل تفاصيله اريد من يساعدني فيدلني بما اجيب ربي ان سألني لم قضيت وقتك بما تعلم اني لن أسألك عنه يوم القيامة فانشغلت بذلك عما ساسالك عنه من الايمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و القدر خيره و شره ثم العبادات و المعاملات. ؟
    . ثم الم اجعل لرسولي اصحابا يكونون قدوة او أسوة لك. ارايتهم انشغلوا بمثل هذا ام انهم ركزوا على العمل .
    الم تسمع قول رسولي خير القرون قرني ثم الذين يلونهم. ارايتهم انشغلوا بمثل هذا . ؟

    اريد من يساعدني على الجواب هنا و من ثم سافرغ لقراءة و تحليل مثل هذه الأمور.

  2. في هذا المقال، تتشابك أنامل الفكر مع بيان رفيع، ليولد نصٌّ يحمل بين سطوره وقار العلم وجمال العبارة. وقد أبدع الدكتور أحمد الزبيدي في رسم لوحة فكرية متزنة، ينتصر فيها للعقل دون أن يغفل عن سلطان النص، ويردّ فيها الغلو بلغة العالم الرصين لا الخصم المنفعل.

    جزيل الشكر لهذا القلم الوقور، الذي أحيا مسائلَ لطالما طالها الغبار، وأعاد تقديمها بلغة الباحث الأمين، والعالم الأصيل.

    مقالٌ يوقظ الذهن، ويُثري المدارك، ويستحق أن يُقرأ مرات لا مرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى