مقالات

دراسات قرآنية (15) د . أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحجمد الزبيدي

 ومن الآيات التي فهم أهل السنة من ظاهرها رؤية الله هذه الآية: قال تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ }. [البقرة : 46]

قال الإمام الفخر الرازي: للمفسرين قولان:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الظَّنَّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ.

قَالُوا: لِأَنَّ الظَّنَّ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ الَّذِي يُقَارِنُهُ تَجْوِيزُ النَّقِيضِ؛ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ غَيْرَ جَازِمٍ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَدَحَ عَلَى هَذَا الظَّنِّ وَالْمَدْحُ عَلَى الْكُفْرِ غَيْرُ جَائِزٍ، فوجب أن يكون المراد من الظن هاهنا الْعِلْمَ، وَسَبَبُ هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ الْعِلْمَ وَالظَّنَّ يَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتِقَادًا رَاجِحًا إِلَّا أَنَّ الْعِلْمَ رَاجِحٌ مَانِعٌ مِنَ النَّقِيضِ، وَالظَّنَّ رَاجِحٌ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ النَّقِيضِ، فَلَمَّا اشْتَبَهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَحَّ إِطْلَاقُ اسْمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، قَالَ أَوْسُ بْنُ حجر:

فأرسلته مُسْتَيْقِنَ الظَّنِّ أَنَّهُ

مُخَالِطُ مَا بَيْنَ الشَّرَاسِيفِ خائف

الشُّرْسُوفُ: الطّرف اللين من الضلع مِمَّا يَلِي الْبَطن .

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ}. [الْحَاقَّةِ: 20] وَقَالَ: {أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ}. [الْمُطَفِّفِينَ: 4].

 ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ وَبَعْثًا عَلَى الظَّنِّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْمُجَوِّزِ لِلنَّقِيضِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بالظن هاهنا الْعِلْمُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلَى ظاهره وهو الظن الحقيقي، ثم هاهنا وُجُوهٌ:

 الْأَوَّلُ: أَنْ تُجْعَلَ مُلَاقَاةُ الرَّبِّ مَجَازًا عَنِ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُلَاقَاةَ الرَّبِّ مُسَبَّبٌ عَنِ الْمَوْتِ فَأَطْلَقَ الْمُسَبِّبَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ السَّبَبُ، وَهَذَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ مَاتَ إنه لقي ربه. إذا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ} الْمَوْتَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُتَوَقِّعًا لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُفَارِقُ قَلْبَهُ الْخُشُوعُ فَهُمْ يُبَادِرُونَ إِلَى التَّوْبَةِ، لِأَنَّ خَوْفَ الموت مما يقوي دواعي التوبة ولأنه مَعَ خُشُوعِهِ لَا بُدَّ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَنْ لَا يَأْمَنَ تَقْصِيرًا جَرَى مِنْهُ فَيُلْزِمَهُ التَّلَافِيَ، فَإِذَا كَانَ حَالُهُ مَا ذَكَرْنَا كان ذلك داعياً إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّوْبَةِ.

الثَّانِي: أَنْ تُفَسَّرَ مُلَاقَاةُ الرَّبِّ بِمُلَاقَاةِ ثَوَابِ الرَّبِّ وَذَلِكَ مَظْنُونٌ لَا مَعْلُومٌ، فَإِنَّ الزَّاهِدَ الْعَابِدَ لَا يَقْطَعُ بِكَوْنِهِ مُلَاقِيًا لِثَوَابِ اللَّهِ بَلْ يَظُنُّ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ مِمَّا يَحْمِلُهُ عَلَى كَمَالِ الخشوع.

 الثالث: المعنى الذين يظنون أنهم ملاقوا رَبِّهِمْ بِذُنُوبِهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْخَاشِعَ قَدْ يُسِيءُ ظَنَّهُ بِنَفْسِهِ وَبِأَعْمَالِهِ فَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى بِذُنُوبِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُسَارِعُ إِلَى التَّوْبَةِ وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ.

 بَقِيَ هُنَا مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بقوله: {مُلاقُوا رَبِّهِمْ}، عَلَى جَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَفْظُ اللِّقَاءِ لَا يُفِيدُ الرُّؤْيَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ وَالْعُرْفُ.

أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}. [التوبة: 77] وَالْمُنَافِقُ لَا يَرَى رَبَّهُ، وَقَالَ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً}. [الْفُرْقَانِ: 68] وَقَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ}. [الْبَقَرَةِ: 223] فَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَالْمُؤْمِنَ، وَالرُّؤْيَةُ لَا تَثْبُتُ لِلْكَافِرِ فَعَلِمْنَا أَنَّ اللِّقَاءَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ.

 وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»[1].

وَلَيْسَ الْمُرَادُ رَأَى اللَّهَ تَعَالَى لِأَنَّ ذَلِكَ وَصْفُ أَهْلِ النَّارِ، وَأَمَّا الْعُرْفُ فَهُوَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِيمَنْ مَاتَ: لَقِيَ اللَّهَ، وَلَا يَعْنُونَ أَنَّهُ رَأَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَيْضًا فَاللِّقَاءُ يُرَادُ بِهِ الْقُرْبُ مِمَّنْ يَلْقَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَزُولُ الْحِجَابُ بَيْنَهُمَا. وَلِذَلِكَ يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا حُجِبَ عَنِ الْأَمِيرِ: مَا لَقِيتُهُ بَعْدُ وَإِنْ كَانَ قَدْ رَآهُ، وَإِذَا أُذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ يَقُولُ: لَقِيتُهُ، وَإِنْ كَانَ ضَرِيرًا، وَيُقَالُ: لَقِيَ فُلَانٌ جَهْدًا شَدِيدًا وَلَقِيتُ مِنْ فُلَانٍ الدَّاهِيَةَ. وَلَاقَى فُلَانٌ حِمَامَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللِّقَاءَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [الْقَمَرِ: 12] . وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْجِسْمِ وَلَا يَصِحُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ الْأَصْحَابُ: اللِّقَاءُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ وُصُولِ أَحَدِ الْجِسْمَيْنِ إِلَى الْآخَرِ بِحَيْثُ يُمَاسُّهُ بِمُسَطَّحَةٍ يُقَالُ: لَقِيَ هَذَا ذَاكَ إِذَا مَاسَّهُ وَاتَّصَلَ بِهِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُلَاقَاةُ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ الْمُدْرِكَيْنِ سَبَبًا لِحُصُولِ الْإِدْرَاكِ فَحَيْثُ يَمْتَنِعُ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى الْمُمَاسَّةِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِدْرَاكِ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ مِنْ أَقْوَى وُجُوهِ الْمَجَازِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ لَفْظَ اللِّقَاءِ عَلَى الْإِدْرَاكِ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى الْإِدْرَاكِ فِي الْبَوَاقِي، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ زَالَتِ السُّؤَالَاتُ.

 أَمَّا قَوْلُهُ: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } .[التَّوْبَةِ: 77] وَالْمُنَافِقُ لَا يَرَى رَبَّهُ. قُلْنَا: فَلِأَجْلِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الْمُرَادُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَ حِسَابَهُ وَحُكْمَهُ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْإِضْمَارَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ.

فَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمَّا اضْطُرِرْنَا إِلَيْهِ اعْتَبَرْنَاهُ، وَأَمَّا فِي قوله تعالى: {أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ}، لَا ضَرُورَةَ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَلَا فِي إِضْمَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَلَا جَرَمَ وَجَبَ تَعْلِيقُ اللِّقَاءِ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا بِحُكْمِ اللَّهِ، فَإِنِ اشْتَغَلُوا بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الرُّؤْيَةِ بَيَّنَّا ضَعْفَهَا وَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ التَّمَسُّكُ بِالظَّاهِرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تعالى الرجوع إلى حيث لا يَكُونُ لَهُمْ مَالِكٌ سِوَاهُ وَأَنْ لَا يَمْلِكَ لَهُمْ أَحَدٌ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا غَيْرَهُ، كَمَا كَانُوا كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْخَلْقِ فَجَعَلَ مَصِيرَهُمْ إِلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ أَوَّلًا رُجُوعًا إِلَى اللَّهِ مِنْ حَيْثُ كَانُوا فِي سَائِرِ أَيَّامِ حَيَاتِهِمْ قَدْ يَمْلِكُ غَيْرُهُ الْحُكْمَ عَلَيْهِمْ وَيَمْلِكُ أَنْ يَضُرَّهُمْ وَيَنْفَعَهُمْ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مَالِكًا لَهُمْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ.

  • ومن الآيات التي فُهم منها جواز الرؤية قوله تعالى : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. [يُونُسَ: 26]

قال الإمام الرازي : “وَأَمَّا اللَّفْظُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الزِّيَادَةُ فَنَقُولُ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ مُبْهَمَةٌ، وَلِأَجْلِ هَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلَيْنِ:

القول الأول: أن المراد من مِنْهَا رُؤْيَةُ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ.

أَمَّا النَّقْلُ: فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْوَارِدُ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُسْنَى هِيَ الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ هِيَ النَّظَرُ إِلَى اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَهُوَ أَنَّ الْحُسْنَى لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ التَّعْرِيفِ، فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَهُوَ دَارُ السَّلَامِ، وَالْمَعْرُوفُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُتَقَرِّرِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ هُوَ الْجَنَّةُ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالتَّعْظِيمِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الزِّيَادَةِ أَمْرًا مُغَايِرًا لِكُلِّ مَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالتَّعْظِيمِ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ قَالَ: إِنَّمَا هِيَ رُؤْيَةُ اللَّه تَعَالَى فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ: الرُّؤْيَةُ. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا وَجْهَانِ:

 الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ}. [الْقِيَامَةِ: 22، 23] فَأَثْبَتَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَضْرَةُ الْوُجُوهِ .

وَالثَّانِي: النَّظَرُ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَوَجَبَ حَمْلُ الْحُسْنَى هَاهُنَا عَلَى نَضْرَةِ الْوُجُوهِ، وَحَمْلُ الزِّيَادَةِ عَلَى رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى.

الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً}. [الْإِنْسَانِ: 20] أَثْبَتَ لَهُ النَّعِيمَ، ورؤية الْمُلْكِ الْكَبِيرِ، فَوَجَبَ هَاهُنَا حَمْلُ الْحُسْنَى وَالزِّيَادَةِ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى الرُّؤْيَةِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّه تَعَالَى مُمْتَنِعَةٌ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَرُؤْيَةُ اللَّه تَعَالَى لَيْسَتْ مِنْ جَنْسِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي تَمَسَّكْتُمْ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ الزِّيَادَةَ، هِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا الْخَبَرُ يُوجِبُ التَّشْبِيهَ، لِأَنَّ النَّظَرَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْلِيبِ الْحَدَقَةِ إِلَى جِهَةِ الْمَرْئِيِّ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَرْئِيِّ فِي الْجِهَةِ، لِأَنَّ الْوَجْهَ اسْمٌ لِلْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ، وَذَلِكَ أَيْضًا يُوجِبُ التَّشْبِيهَ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الرُّؤْيَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَعِنْدَ هَذَا قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْحُسْنَى عِبَارَةٌ عَنِ الثَّوَابِ الْمُسْتَحَقِّ، وَالزِّيَادَةُ هِيَ مَا يَزِيدُهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى هَذَا الثَّوَابِ مِنَ التَّفَضُّلِ قَالَ: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ: الْقُرْآنُ وَأَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ.

أَمَّا الْقُرْآنُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [فَاطِرٍ: 30] .

وَأَمَّا أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ:

فَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الزِّيَادَةُ غُرْفَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحُسْنَى هِيَ الْحَسَنَةُ، وَالزِّيَادَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَعَنِ الْحَسَنِ: عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الزِّيَادَةُ مَغْفِرَةُ اللَّه وَرِضْوَانُهُ. وَعَنْ يَزِيدِ بْنِ سَمُرَةَ: الزِّيَادَةُ أَنْ تَمُرَّ السَّحَابَةُ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَتَقُولَ:

مَا تُرِيدُونَ أَنْ أُمْطِرَكُمْ فَلَا يُرِيدُونَ شَيْئًا إِلَّا أَمْطَرَتْهُمْ.

أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَالُوا: أَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى امْتِنَاعِ رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى فَهَذَا مَمْنُوعٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ تِلْكَ الدَّلَائِلَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَنِهَايَةِ السَّخَافَةِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْعَقْلِ مَا يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ بِإِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ، وَجَبَ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا.

أَمَّا قَوْلُهُ الزِّيَادَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ فَنَقُولُ: الْمَزِيدُ عَلَيْهِ، إِذَا كَانَ مُقَدَّرًا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مُخَالِفَةً لَهُ.

مِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: أَعْطَيْتُكَ عَشَرَةَ أمداد من الحنطة وزيادة، فههنا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مِنَ الْحِنْطَةِ.

ومثال الثاني: قوله أعطيتك الحنطة وزيادة، فههنا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ الْحِنْطَةِ، وَالْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَفْظُ الْحُسْنى وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَهِيَ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا شَيْئًا مُغَايِرًا لِكُلِّ مَا فِي الْجَنَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْبَابِ، اشْتَمَلَ عَلَى لَفْظِ النَّظَرِ، وَعَلَى إِثْبَاتِ الْوَجْهِ للَّه تَعَالَى، وَكِلَاهُمَا يُوجِبَانِ التَّشْبِيهَ فَنَقُولُ: هَذَا الْخَبَرُ أَفَادَ إِثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ، وَأَفَادَ إِثْبَاتَ الْجِسْمِيَّةِ. ثُمَّ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ، فَوَجَبَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِمَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ فَقَطْ، وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ هِيَ الرُّؤْيَةُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ تُنَافِي تَقْرِيرَ ذَلِكَ الْخَبَرِ، واللَّه أَعْلَمُ.

[1] – قال الحافظ في “الإصابة” (1/ 100): إسناده صحيح”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. في زمن تتراخى فيه العقول عن مقاربة النص، يأتي الدكتور أحمد الزبيدي ليعيدنا إلى مائدة التفسير العميق، حيث يلتقي البيان بالإيمان، والدلالة باليقين.
    هذا المقال ليس دفاعًا عن عقيدة فحسب، بل درسٌ في أصول الفهم، وفي آداب الخلاف، وفي جمال الاستدلال حين يتحرّك في ضوء النص لا ظلال الشك.
    لله درك يا دكتور أحمد، فقد أعدت للآيات جلالها، وللعقل مقامه، وللرؤية مقامها الذي يليق بسؤال الخاشعين: “هل نراه؟”… فجاء الجواب علمًا وخشوعًا معًا.

  2. دكتورنا الفاضل:
    جزاك الله عني وعن القراء كل خير، وأعانك الله على هذا الجهد الطيب، وأرجو أن يعينك الله وتجمعه في كتاب يحمل نفس العنوان” رد الإمام الفخر الرازي عل المعتزلة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى