مقالات

“موسوعة الكائنات الخرافية في التراث الإماراتي” د. عبد العزيز المسلّم 

كتاب قيم، فريد في بابه، لم يَنسجْ أحدٌ على مِنواله، جامعٌ للفرائد

د. عبد العزيز المسلم

قراءة د. أحمد الزبيدي:

 

قَالَ أَبُو عَليّ ‌‌‌مِسْكَوَيْه-” 421 ه” الهوامل “237” : الإنسانُ متطلعٌ إِلَى الْوُقُوف على كائنات الْأُمُور ومستقبلاتها ومغيباتها، فَهُوَ بالطبع يتشوفها، ويروم مَعْرفَتهَا على قدر استطاعته، وبحسب طاقته، فَرُبمَا أمكنه التَّوَصُّل إِلَى بَعْضها بطبيعة مُوَافقَة فِي رأى صائب، وحدس صَادِق وتكهن فِي الْأُمُور.. “

والشاهد في كلام مِسْكَوَيْه ؛ تطلع الإنسان وتشوفه على مغيبات الأمور، وخفيات الصدور.

وقد تحدث الجاحظ عن ابتداء ذلك في كتابه “الحيوان” (6/445)، قال:” أصل هذا الأمر وابتداؤه، أنّ القوم لما نزلوا بلاد الوحش، عملت فيهم الوحشة. ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء، والبعد من الإنس – استوحش. ولا سيّما مع قلة الأشغال والمذاكرين.

والوحدة .. والفكر ..من أسباب الوسوسة.

وإذا استوحش الإنسان تمثّل له الشّيء الصغير في صورة الكبير، وارتاب، وتفرّق ذهنه، وانتفضت أخلاطه، فرأى ما لا يرى، وسمع ما لا يسمع، وتوهم على الشيء اليسير الحقير، أنه عظيم جليل.

ثمّ جعلوا ما تصوّر لهم من ذلك شعرا تناشدوه، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيمانًا، ونشأ عليه الناشئ، وربّي به الطّفل، فصار أحدهم حين يتوسّط الفيافي، وتشتمل عليه الغيظان في اللّيالي الحنادس- فعند ذلك يقول: رأيت الغيلان! وكلّمت السّعلاة! ثمّ يتجاوز ذلك إلى أن يقول قتلتها، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: رافقتها ثمّ يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوّجتها!! قال عبيد بن أيّوب :

‌فللَّه ‌درُ ‌الغولِ ‌أيُّ ‌رفيقةٍ   لصاحبِ قفرٍ خائفٍ متقفرِّ

أرنت بلحنٍ بعد لحنٍ وأوقدت  حواليَّ نيراناً تبوخ وتزهر

فإن العرب تذكر أن الغيلان توقد النيران بالليل للعب والتخييل وإضلال أبناء السبيل، وكان كثيرٌ من شعرائهم يدعي أن له شيطاناً يعلمه الشعر.

وفي محاضرات الأدباء (2/662) قال الراغب :” وتزعم العامة أن الجنّ تتصور بأي صورة تشاء، إلا الغول، فإنها تتصور في صورة امرأة، إلا رجليها فإنهما لا بد وإن يكونا رجلي حمار..والغول تتصور للإنسان فتغوله أي تهلكه، ويقولون من ضربها ضربة قتلها. وإذا زيدت لم تمت ولو ضربت ألوفا. قال شاعر:

فقالت زد فقلت رويد أني … على أمثالها ثبت الجنان

قال الجاحظ: و الطهوي هذا كان من شياطين الأعراب؛ وهو كما ترى يكذب وهو يعلم ويطيل الكذب ويجيزه وقد قال كما ترى: فقالت زد فقلت إني …

قال ابن الأثير الجزري في النهاية في (3/396) الحديث الشريف: “‌لا ‌غول ولا صفر” الغول: أحد الغيلان، وهي جنس من الجن والشياطين، كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس فتتغول تغويلا أي: تتلون تلونا في صور شتى، وتغولهم أي: تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأبطله.

وهكذا كان لكل شعب من الشعوب، ولكل أمة من الأمم حظ من الخرافة، والكهانة، والعيافة، وليس الأمر خاصٌّ بالعرب.

وقد حفل الموروث الشعبي الإماراتي بهذه الكائنات الخرافية، وإن قامت في معظمها على شيء من الحقيقة، رغم ما اعتراه من خيال وتضخيم وتفخيم!

وقد شكل هذا الموروث مع “الأيام زادا” للباحث المحقق، والناقد المدقق، فنهض ‌لهذا العمل الفذ الدكتور عبد العزيز المسلم أحد أعلام النبلاء في الشارقة، بل الإمارات العربية المتحدة، برع في الأدب، وأولع في التراث والتاريخ، وشغف بالبحث العلمي، شغف العلماء أصحاب الاختصاص.

فصنف كتابه “موسوعة الكائنات الخرافية في التراث الإماراتي ” وهو كتاب قيم، فريد في بابه، لم يَنسجْ أحدٌ على مِنواله، جامعٌ للفرائد، زاخرٌ بالفوائد، قد خُطَّ بيدٍ دَرِبة خبيرة، ذاتِ فكرٍ ثاقبِ وبصيرة،،، فمؤلِّفهُ: المسلّم- رئيس معهد الشارقة للتراث-  قد فاق أقرانه علمًا وفضلًا، وكُتبه معروفةٌ، وبحسنها موصوفة، فأضحت الْوُجُوه إِلَيْهِا مصروفة. ‌وقد عكف الدكتور المسلم واجتهد، في محراب التراث الشعبي، وهو حقل واسع، وميدان فسيح، ومجالاته التراثية متشعبة، فسعى إلى سبر مكنوناته ، وافتراع مخبوءاته. وفض أختامه، فالتراث عند المسلم عشق وجود، وانتماء أصيل ، ورثه عن الآباء والجدود.

جَدِّدِي الْوَصْلَ يَا قَرِيبُ ‌وَجُودِي  لِحَبِيبٍ فِرَاقُهُ قَدْ أَلَمَّا

أما كتابه هذا فقد قلّبَ فيه وجرّبَ. وشرّقَ ‌وغرّبَ، فصار مرجعا للباحثين، وعمدة للمؤلفين، الذين ينشدون التأليف في هذا المجال، وينشدون  صَفْوَة ‌الجِرْيال.

فتُرجم إلى عديد اللغات العالمية الحية، بدءًا بالإِنجليزية والفرنسية، والإسبانية، والإيطالية، والبرتغالية والروسية، ما ساعد على انتشاره والتعريف به.

سيّدٌ قُلَّبٌ سَبوقٌ مُبِرٌّ  فطِنٌ مُغرِبٌ عَزوفٌ عَيوفُ

وكتابه هذا انضمَّ إلى مجموعة سبقته ألَّفها الدُّكتور المسلم في مجالات علمية متعددة .مثل :”بنات واق واق وحكايات أخرى”  حصل به على جائزة سرد الذهب، عن فرع السرود الشعبية عام 2023م، وكتاب ” غاية والحنيش”، وكتاب ” دجاجة ميثانة”، وكتاب “نعم اقرأ نعم اكتب”، وكتاب “أمير البحار” وكتاب “مدونة مسافر”، وهو كتاب كتبه على نمط خاصمن ‌أدب ‌الرّحلة، لينضم إلى جوار كتاب ورحّالة عرب ومسلمين جابوا العالم ودوّنوا يوميّاتهم وانطباعاتهم، ونقلوا صورا لما شاهدوه وخبروه في أقاليمه، قريبة وبعيدة،.. ومحاولة التعرّف على المجتمعات والنّاس في الشرق الغرب.

وقد خرج في تصنيفه هذا عن مألوف هذا النوع من الكتب، التي كتبها ابن بطوطة، وسطر ها ابن جبير؛ -قديما-، ودونها أنيس منصور وأرسلان، وغيرها من كتب الرحلات؛ حديثا.

وقد صدر كتاب “موسوعة الكائنات” عن معهد الشارقة للتراث، وهو في أصله مقالات، تزينها رسومات كاريكاتورية، صدرت ابتداءً في كتاب بعنوان “خراريف” ،تناول فيها المؤلف نحو 37 كائناً خرافياً في الحكايات الشعبية الإماراتية وأهمها : “أم الدويس، “بابا درياه”، “خطاف رفاي” و”أبو السلاسل”الخ…

وقد سلك فيه المسلَّم مسلكًا منهجيًا جديدًا ومبتكرًا، فقد بدأ بذكر اسم الكائن، وأصله، وتفسيره، وبيئته، كما تعقب أسماء المصادر والمراجع التراثية العربية التي ذكرته ؛ فنجح في إرجاعها إلى مصادرها؛ العربية المعروفة ،وأشهرها على الإطلاق كتاب العلامة شهاب الدين محمد بن أحمد ‌‌‌الأَبْشِيهي الشافعي(852 ه) صاحب كتاب “‌المستطرف في كل فن مستظرف”وهو من أقرب المصنفات إلى قلوب القراء ، وأكثرها تداولا وإقراء.

أتراك تسمع للحمام الهتف … شجواً يكون كشجوي ‌المستطرف وحرص المسلم في تنفيذ هذا الكتاب وإخراجه على الرسم، حيث قام برسم الكائنات المذكورة أربعة رسامين مشهورين، تميزوا بحرفية عالية، وموهبة غالية.

ومثلما حظيت المقالات أول أمرها باهتمام القراء ، كذلك حظي الكتاب -كذلك-آخر أمره باهتمام العلماء؛ فاحتفلت به المراكز العلمية، وناقشته المقاهي الأدبية، وما زال منذ صدوره وإلى الآن يحتفظ بألقه وبهرجه.

يقع الكتاب في(559) صفحة ضمَّتِ كل ما استطاع أن يصل إليه الباحث من أسماء لتلك الكائنات.

قسم المؤلِّف كتابه إلى أقسام أهمها: “اسم الكائن، أصل التسمية  وتفسير ها  والبيئة التي اشتهر فيها”  كما تناول المصادر التي تحدثت عنه وتناقلته، وهل لهذا الكائن من ذكر في تاريخ الأدب العربي القديم!

بقي أن نقول: إن مادَّة الكتاب وأحاديثه لغوية وأدبية جوهره المعرفة والتسلية، وقطع الوقت بالتزجية، وربط الماضي بالحاضر، وإظهار الحق من الجائر.

يحمل د. المسلم في صميم حناياه قلبًا كبيرًا مليئًا ولاءً وانتماء؛ لدينه، وأرضه، وأهله، ووطنه، ولا ينفك يحاول من خلال تأليف كتبه طرح رسالة مفادها؛ أن النهضة والتَّغيير، لا يكونان بغير قراءة وكتابة وتعبير، ويشدد على ذلك بقوله: “القراءة ثم الكتابة، ثم يكون كل شيء، هذه هي المكونات الأولى التي تبنى بها الحضارات، فمن دون قراءة ، ومن دون كتابة، لا تستقيم الحياة، ولا تتضح الأمور، فالعلم يُدوّن بالحبر في القرطاس، لكنه يُدون أيضًا بمفاتيح الآلة الكاتبة فيما مضى ، والآن يدون بمفاتيح الحواسيب اللوحية، ولا أعلم كيف ستكون عملية الكتابة في المستقبل!”

واللام التي ينادي بها المسلم، ويتأوه لها في كلمة “الحياة” هي لام العهد ، فهو يريد لأمته أن ترجع كسابق عهدها، أمة قيادية ، وأمة ريادية، تزاحم الأمم بعلمها، وتقدمها، وحضارتها.

تقول الدكتورة الأديبة الشاعرة ثريا نعمان ماهر:”

ولا سبيل إلى ذلك ما لم يقرأ أبناؤنا الحقائق كما حصلتْ؛ علينا أن نقرأ تاريخنا بعينين نابهتين لا بعين واحدة، ثمَّ نكتبه في صحائف؛ تحفظ الحقائق ونسجِّله صوراً تُعين الأبناء والأحفاد على أن يقرؤوه بوضوح. ولأنَّ أبناءنا هدفُ العدوِّ في حربه الخشنة أو النَّاعمة فلا بد من تربية تتميز بأفانينَ من الحكمة والنُّصح والإرشاد تُعِين في تربية النَّشء وتوجِّههم نحو سلوك قويم، ومُثُل وقِيَم انصرفت عنها أفئدة كثيرين من أهل هذا العصر، عصر الجهالة المذمومة والأفكار الفاسدة والغربة والشَّتات”.

ورحم الله شاعر العراق وفارسه؛ الكنعاني :

لا تعيدي ذكرى عهودٍ مواضي    لستُ ممن يهيم بالأَنقاض

في حديث الغرام أذنيَ صما       ءُ وقلبي يضجُّ بالإعراض

إني قد شغلت بالوطن العا      ني عن الكأس والهوى والرياض

قد جعلت الكفاحَ رائد شعري        وأنا بالكفاح يا هند راضي

فاسمعي لي في كل يوم نشيدا ً   غير ما قد سمعته في الماضي

فاللحون الرقاق عادت  هديرا        يستحث النضال للانتقاض

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. أنار الله بصيرتك كما أنرت بصائرنا، وأحبك الله كما حببتنا بلغتنا العظيمة وتراثنا الجميل.

  2. صباح الخير والادب والنقد البديع
    ماذا أقول يا د. أحمد لم يبق باب الا طرقته ووضعت لمساتك عليه
    وعشنا معك في طيات هذا الكتاب كغيره
    فشكرا لك…

  3. ١. موضوع المقال فيه لطافة وظرافة زانهما أسلوبك الرّشيق.
    ٢. المبالغة في الإطراء والمدح تنحرف بنا عن الموضوعيّة حتّى لو كان الكاتب أو الكتاب يستحقّانهما وزيادة.
    ٣. من المفيد الانتهاء من عرض جانب ثمّ الانتقال إلى آخر دون إعادة.
    ٤.ما زالت لام العهد مبهمة فلم أهتدِ إلى ما أحلتنا إليه.
    ٥. المراجعة مرّتين تجنّبنا ما سهونا عنه مرّة.
    ٦. سلمت يداك.
    ٧. ربّما تتناول الكائنات الخرافيّة في ثقافات أخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى