مقالات

بين العامية والفصحى (20)  د.  أحمد الزبيدي         –         الإمارات

التأويل الحداثي للتراث

د. أحمد الزبيدي

(محمد شحرور حلقة في سلسة طويلة

” 2 “

نبه المفكرون باكرًا؛ ومنهم المفكر الجزائري مالك بن نبي على اللعبة الخطيرة التي يلعبها المستشرقون؛ وهي سعيهم في تسريب أفكارهم ومصطلحاتهم إلى ثقافتنا العربية الإسلامية ونحن غافلون، وذلك من خلال أشياعهم، فإذا ما تم ذلك فإن الأمة تتلقاها بترحيب وتأهيل كما تفعل مع الأفكار الأصيلة، وضرب على ذلك مثالًا حيًا -والأمثال كثيرة- قصة طه حسين وكتابه (الشعر الجاهلي)؛ وتدور قصة الكتاب على التشكيك في صحة الشعر الجاهلي وفي صحة نسبته إلى الجاهليين، ثم الإفضاء من ذلك إلى نتيجة = أن الشعر الجاهلي منحول موضوع، وأنه شعر إسلامي صنعه الرواة المسلمون، وفكرة الكتاب “في الشعر الجاهلي” قائمة على “السطو” على مقالة المستشرق “مرجليوث”، ومع علم الجامعة التي يعمل بها حسين بذلك إلا أنها سكتت عن “السطو”، وتواطأت مع طه حسين ودافعت عنه، وذلك لأسباب بيناها في مقالاتنا السابقة، فكان ذلك و منها إقرار لتشريع مثل هذا السطو ، فمن يومها خلع -من كان بالأمس يستحي أن يوصم بالسطو- برقع الحياء، واستحدث هؤلاء وسائل وأساليب تجعل هذا “السطو” يبدو ضربًا من “التجديد” والابتكار في دراسة الأدب والابداع فيه. وبدأ السطو من بعض “الأساتذة الكبار” تزداد أساليبه خبثا ومكرا، ودهاء ، يوما بعد يوم، تحت رعاية “الاستشراق الثقافي” الذي تولى كِبْرَهُ “الأَساتذة الكبار” وتُسَهِّل من أمره ما كان يَسْتصعب، ودرج المستشرقون يستغلون تلاميذهم العرب، ويدربونهم على الأخذ منهم ثم صياغة ما يأخذون في قوالب عربية جميلة تخفي ما وراءها  من تشوهات وعمليات تجميل، ورحم الله شاعر المعرة إذ قال:

ولا تُعَلِّمْ صغيرَ القوم معصيةً

فذاك وِزْرَ إلى أمثاله عَدَلَكْ

فالسِّلْكُ، ما اسطاع يوما ثَقْبَ لؤلؤةٍ!

لكنْ أصاب طريقًا نافِذًا فسَلَكْ

دارت العجلة، وجاء جيل بعد جيل، وجد طريقًا نافذًا فسلك! واستقر الأمر على ذلك إلى يوم الناس هذا، ولا أقول في البحث الأدبي فحسب، بل في سائر الفنون والعلوم!  وقد تكلمت عن شيء من ذلك في مقالتي (السرقات الأدبية) فليرجع إليه.

ثم جاء الأستاذ أحمد أمين فحمل على الأدب العربي، وحقر شعره الجاهلي، وصرح بوجوب نبذهما؛ لأنه كان(أي الشعر الجاهلي) “جناية على أدبنا”. فعل ذلك في ذات الوقت الذي ألف فيه سلسلته؛ “فجر الإسلام”، و”ضحى الإسلام”، و”ظهر الإسلام”، معتمدًا في تأليفها على أساتذته من المستشرقين، والأخذ بمناهجهم في البحث والتأريخ، والأخذ والرد، دون أن ينسب شيئًا من ذلك لصاحبه.

ولم يكتف الرجل بذلك، بل إنه كان يوصي تلامذته ومريديه في الاقتداء به بعدم ذكر المراجع الاستشراقية خوفًا من إثارة حفيظة الأزهر.

وهنا كلمة حق تقال: وهي أن أحمد أمين-كما شهد له محمود شاكر وإحسان عباس- بلغ من العلم والثقافة والمعرفة ما يؤهله لمقارعة كبار المستشرقين لولا الاستخذاء النفسي والانهزام الروحي الذي كان يشعر به إزاء المستشرقين.

وإذا كنا نتحدث عن تأثر البعض بالمستشرقين مع مالهم من وزن علمي، ومكانة أدبية، يفعلون ذلك على استحياء، فقد خلفهم خلف أضاعوا العلم والأدب، وصاروا يعلنون ذلك دون حوف أو وجل .

محمد أركون الجزائري مولدًا، الفرنسي هوى، الذي درس وتعلم في جامعة “السوربون” وعمل مدرسًا فيها حتى وفاته، يعدُّ بحق نموذجًا مثاليًا للعربي المضبوع بالثقافة الغربية، والمأخوذ بكل ما يقولون، وكان همه في الحياة-وبئس الهم- إسقاط التجربة الغربية على واقع المسلمين بلا وعي ولا تدبر ولا تفكير، وقد ظل حتى آخر يوم في حياته ينفث سمومه في كتبه؛ حتى إنه تبنى مشروعًا يعيب فيه القرآن بما تعاب به كتب اليهود والنصارى من تحريف؛ وقد وصل به الحال في مقالة له بعنوان: “مصحف البحر الميت” زعم فيه: أن لفائف البحر الميت فيها نُسخ من القرآن غير التي بأيدي المسلمين، مع أن حقيقة لفائف البحر الميت هي أصول للتوراة أو للعهد القديم من كتاب النصارى المقدس، وهي تخالف التوراة المعروفة مخالفات جوهرية، مما جعلهم يخفونها ولا يترجمونها.

ومثله؛ نصر حامد أبو زيد، وهو في الأصل (فني لاسلكي) لم يدرس الشريعة الإسلامية، وتاريخ التشريع، والفقه والأصول وغيرها من سائر العلوم الإسلامية إلا بعد أن طعن في الثلاثين من عمره، حيث نشأ الاهتمام فجأة في الدراسات القرآنية، ولا عيب في ذلك لولا أنه سرق أفكاره كلها أو جلها من المستشرقين ونسبها لنفسه، ومع كل هذا لم يشتهر ولم تتلقفه الدوائر الاستشراقية لولا الضجة التي أثيرت حوله بعد جكم الأزهر بكفره والتفريق بينه وبين زوجه!

ومثله جورج طرابيشي، وحسن حنفي، وجعيط ، وفهمي جدعان، وكلهم تميزوا بكرههم للإسلام وقراءته بأدوات غربية، كذا المفكر الماركسي-في بدايته- المجتهد  الجابري، وقد آثرنا تسميته بهذا الاسم لأن الجابري يروق له استعمال هذا الاسم وخاصة في مقدمة كتابه (العقل السياسي العربي)، وقد تأثر كثيرًا بالمستشرقين: دوبري، وفوكو، ولوكاتش وغيرهم ممن تأثر بالدراسات البنيوية، أو ما يسمى بالمنعرج الأدبي في الدراسات الإنسانية.

كذلك وائل حلاق الذي اشتهر فجأة في الغرب بعد أن ردَّ -في الظاهر- على المستشرق شاخت صاحب النظرية التي تقول إن أحاديث الأحكام كلها أو جلها منتحلة بعد ظهور المدارس الفقهية، انتجتها المدارس نظرًا لحاجتها، وأعجَب لهذا الرجل؛ فهو في البداية يُظهر في دراسته نوعًا من المزايدة على المستشرقين والغيرة على الدين ثم سرعان ما تجده يتبنى نتائجهم ومخرجاتهم الفكرية ويسبقهم في ظلمه ونكرانه وجحوده للتراث، فالإسلام في نظر “شاخْت” مستمد من ديانات أهل الكتاب، وفي نظر وائل حلاق “ظلم وإجحاف للإسلام”، فالإسلام أكبر من ذلك بكثير، وعظمة الإسلام -في نظر وائل حلاق- “تكمن في استمداده من الحضارات السابقة لأهل الكتاب مثل السومريين، ومن الأعراف والتقاليد العربية”.

ومن هؤلاء “أركون التونسي” المعروف عبد المجيد الشرفي صاحب العلاقات المشبوهة بجهات كنسية في إيطاليا وألمانيا، تبنت مشروعه الكبير وحلم عمره (المصحف وقراءاته) في سبع مجلدات، أسسه على الطعن في مصداقية وموثوقية القرآن المجيد، وهو في كل ذلك يستقي هجومه وافتراءاته من المستشرقين أمثال آرثر ونولدكة وغيرهما، وقد طبع الكتاب في مؤسسة مؤمنون بلا حدود، وتكم خطورة هذا الرجل في إشرافه على مشاريع ضخمة تشكك في مسلمات الإسلام، وهو صاحب مقولة: “إن الدين الإسلامي عبارة عن أخلاط وامشاج مما كان ذائعًا ومنتشرًا في بيئته صلى الله عليه وسلم، ومع الأيام، فقد تطور هذا الفكر ليأخذ شكلًا آخر” أطلقوا عليه اسم: “الإيفوجونست”، أو المراجعون ” وبعبارة أخرى هو النكران أو الجحود المطلق للحقائق والوقائع الإسلامية البديهية، ومن أصحاب هذا المذهب وأعلامه باتريشيا كرون وأستاذها مايكل كوك، فقد وصلا إلى مستوى من الجحود والمكابرة أنكرا فيه شخص المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأنكرا وجود مكة في الحجاز، و ادعيا أنها في الأردن وغير ذلك من الترهات، ولعل يوسف زيدان وأقزام مركز “تكوين” ممن تلقوا مثل هذه الأفكار فقالوا ما قالوا عن وجود المسجد الأقصى.

يَضحُ لنا من كل ما قدمناه أن محمد شحرور مُجرد حلقة مهترئة في سلسلة طويلة، جمعت أصحابها جامعة الجهل والحقد والانهزام الروحي والنفسي، غير أن “شحرور” أكثرهم جهلًا وتخبطًا مما جعله يلعب دورًا كأنه يصدر فيه عن مناهج متناقضة مما يزيدني يقينًا بأنه بريء ما نسب له من كتب وبحوث براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام، وفي المقالات القادمة نبرهن على ذلك بحول الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. تحياتي واحترامي وان الفهم الصحيح يعطي صورة واضحة جلية بعيدة عن التشوه والتشويه وان الفهم الغلط يعطي ارهاصات وتداعيات لا تقوم على بنيان علمي سليم وقوي وهذا هو خطأ الادباء والمستشرقين المتاثرين بقانون المؤامرة التاريخية وان كل شيء ليس بمكانه .لذلك نتج لدينا نهج واسلوب مشوه يطعن بكل شيء .مقالات وكتابات دكتور احمد الزبيدي تجعلنا اذكياء حساسين تجاه المعلومة وهي دعوة للفهم الصحيح وبصورة علمية وعدم الاغتراب عن الحقائق .جزاك الله كل الخير دكتور وانت مميز تميز الخبيث من الطيب .الله يعطيك العافية مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لشخصك الكريم ولكتاباتك الرائعة وقامتك العلمية والادبية .تحياتي
    مهند الشريف

  2. مقال الدكتور أحمد جاء كالسهم في قلب الزيف؛ فكشف بأسلوب علمي رصين، ووعي فكري نافذ، مدى تغلغل الاستشراق في بنيتنا المعرفية، وكيف تُصاغ أدوات الهدم بلباس التجديد. تحليل عميق وسرد موثق يعيد ترتيب المشهد الثقافي العربي على أسس من اليقظة والتمييز. كل التحية لهذا القلم الذي لم يخشَ أن يسمّي الأشياء بأسمائها.

  3. لو ذكرت خلال مرورك على كل هؤلاء التغريبيين الصادق النيهوم ، فقد كان ضجيجه عالياً قبل أقل من نصف قرن ، ولولا الظهور المفاجئ للشحرور لاستمر إنتاجه حتى الآن، وكذلك الشويخ المجدد الأخير الكيالي.
    منذ 1400 سنة والحملات الفكرية السوداء مستمرة . ومنذ 1400 سنة والإسلام واقف بقوة على قدميه ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قوة المُهاجَم ، وتفاهةِ وخواء المهاجِمين جميعهم ، على كثرتهم وتنوعهم وتنوع أساليبهم.

  4. صباح الخير يا دكتور
    نتمنى دائما ربنا يهيء أناس ليحافظوا على هذا التراث وهذا التاريخ .
    جزاك الله كل خير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى