مقالات

بين العامية والفصحى (27) د.  أحمد الزبيدي         – الإمارات  

"أباطيل وأسمار" (5) إنكار محمد شحرور "الترادف"

د. أحمد الزبيدي

 قال شيخ المعرة رحمه الله:

هل صَحَّ قَولٌ مِنَ الحاكي فَنَقبَلَهُ

أَم كُلُّ ذاكَ أَباطيلٌ وَأَسمارُ

أَمّا العُقولُ فَآلَت أَنَّهُ كَذِبٌ

وَالعَقلُ غَرسٌ لَهُ بِالصِدقِ أَثمار

قال محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقرآن): ” لقد استعرضنا معاجم اللغة فوجدنا أن أنسبها هو معجم مقاييس اللغة لابن فارس تلميذ “ثعلب” الذي ينفي وجود الترادف في اللغة، فقد تم الاعتماد عليه بشكل أساسي دون إغفال بقية المعاجم”.

وقال في لقاء تلفزيوني: “كل كلمة لها معنى تماما، الترادف ملغي، إذا أسقطت الترادف في اللغة العربية الفقه الإسلامي يسقط كله”.

إن قول محمد شحرور بعدم وجود الترادف في اللغة العربية و سائر اللغات الأخرى هو كسائر أقواله العبثية، وإنما ينم عن جهل مطبق بشكل عام، وجهل مطبق في اللغة العربية بشكل خاص؛ فالترادف موجود في العربية وموجود في جميع اللغات، ولا ينكره ولا يجحده إلا جاهل لم يشَمْ رائحة العلم، ولم يدر ما الكتاب!

فمن المعلوم بداهة -لكل من درس اللغة العربية- أن ثم علاقات متعددة بين اللفظ والمعنى، وأن “الترادف” واحدٌ منها، حيث يظهر في وجود كلمات يمكن أن تتبادل المواقع مع بعضها دون أن يتغير المعنى على الرغم من اختلاف المكونات الصوتية لها. وتسمى هذه العلاقة علاقة إيجاب.

ولقد أثبت كبار علماء العربية قديما وحديثا وجود الترادف في اللغة، ومن بين هؤلاء العلماء: سيبويه، فقد أشار إلى الترادف في كتابه(الكتاب)، ومنهم الأصمعي؛ ألف كتاباً بعنوان “ما اختلفت ألفاظه واتفقت معانيه”، ومنهم ابن جني؛ الذي ذكر في كتابه (الخصائص) أن الترادف يدل على شرف هذه اللغة،  وأبو الحسن الرماني، وابن خالويه، وحمزة بن حمزة الأصفهاني، والفيروزآبادي؛ صاحب كتاب “الروض المسلوف فيما له اسمان إلى آلوف”.

في “لسان العرب” : ” الرِّدْفُ: مَا تَبِعَ الشيءَ. وَكُلُّ شَيْءٍ تَبِع شَيْئًا، فَهُوَ رِدْفُه، وَإِذَا تَتابع شَيْءٌ خَلْفَ شَيْءٍ، فَهُوَ التَّرادُفُ، وَالْجَمْعُ الرُّدافَى؛ قَالَ لَبِيدٌ:

عُذافِرةٌ تَقَمَّصُ بالرُّدافَى

 تَخَوَّنَها نُزولي وارْتِحالي

وَيُقَالُ: جَاءَ الْقَوْمُ رُدَافَى أَي بَعْضُهُمْ يَتْبَعُ بَعْضًا.

وفي الاصطلاح:  دلالة كلمات مختلفة على معنى واحد، مثل: الحزن، والشجن، والأسى، والجوى، واللهفة، والحسرة، واللوعة، والحرقة، والكآبة، والترح، والغم، ، الوجد، ، الجزع، الأسف.

وهفوة، وزلة، وسقطة، وعثرة، وكبوة.

وفلان يشبه فلانًا، ويشابهه، ويشاكله، ويماثله، ويضارعه، ويحاكيه، ويناظره، ويضاهيه.

حجج المثبتين:

يحتج المثبتون للترادف بعدد من الحجج والبراهين:

  • لو لم يكن ثم ترادف لما أمكنَ أن نعبِّر عن شيء بغير عبارته، وذلك أنا نقول في ‏”‏لا ريب فيه”:‏ “لا شكَّ فيه”، وأهل اللغة إذا أرادوا أن يفسروا (اللُّب) قالوا هو “العقل”، فلو كان الريبُ غيرَ الشك والعقل غير اللُّب لكانت العبارةُ عن معنى الريب بالشك خطأ، فلما عُبِّرَ بهذا عن هذا عُلم أن المعنى واحد‏.

  • ‏ إنّ الشاعر والناثر يأتي بالاسمين المختلفين للمعنى الواحد في مكان واحد تأكيدًا ومبالغةً كقوله‏:‏ “وهند أتى من دونها النَّأْي والبعد”، والنَّأْيُ هو البعد‏.

  • الترادف لا يعني التشابه من كل وجه، وإنما يقوم لفظ مقام لفظٍ لمعانٍ متقاربة يجمعُها معنًى واحد.

يقولون: أصلحَ الفاسد، ولمّ الشّعث ورتَقَ الفَتْق، وشَعَبَ الصَّدع‏.‏

ويقولون للفاسد الذي لا يقدر على إصلاحه وتلافيه واستدراكه: هَذَا الأَمرُ لَا يُؤْسى كَلْمُه،ولا يرتق فتقه، ولا يرقع وهيه، ولا يرجى رأبه.

وقد عدّ العلامة ابن عاشور الترادف علامة على سعة اللغة العربية، قال في تفسيره التحرير والتنوير (ج 19 ص 190):” فَإِنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَوْسَعُهَا لِاحْتِمَالِ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ الشَّرِيفَةِ مَعَ الِاخْتِصَارِ، فَإِنَّ مَا فِي أَسَالِيبِ نَظْمِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِعْرَابِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ، وَمَا فِي سِعَةِ اللُّغَةِ مِنَ التَّرَادُفِ، وَأَسْمَاءِ الْمَعَانِي الْمُقَيَّدَةِ..”.

المنكرون للترادف:

أشهرهم: ثعلب، وابن فارس: وأبو علي الفارسي وأبو هلال العسكري والقاضي البيضاوي.

حجتهم :

لا يجوز أن يختلفَ اللفظ والمعنى واحد لأنّ في كل لفظة زيادة معنى ليس في الأخرى، ففي ذهب معنى ليس في مضى.

قال الأستاذ سليمان أبو عيسى: “يبدو أن الاختلاف عائد إلى معنى الترادف، هل يعني التَّشابُه التَّامَّ في كل الأحوال؟ أم هل يعني التشابه النسبي الذي يمكن فيه أن تستعمل لفظة مكان أخرى؟ إذا كان الأول، فالتشابه مستحيل بين كلمتين بل إن بعض علماء اللغة يستبعد أن تشبه الكلمة نفسها في موضعين مختلفين، أما إذا قبلنا بالتعريف الثاني، فإننا لن نعدم عددًا من الألفاظ التي يُمكن أن تحل محل أخرى في سياقات معينة؛ فنعدها من الترادف.

أسباب الترادف

يرى عدد من الباحثين القدماء والمحدثين وعلى رأسهم الأستاذ سليمان أبو عيسى أن أسباب الترادف ترجع إلى أسباب عدة، ومنها:

 1-  فقدان الوصفية: بعض الألفاظ كانت تدل في الماضي على أوصاف محددة لاعتبارات معينة غير أنه مع مرور الزمن تُوسع في استعمالها ففقدت الوصفية واقتربت من الاسمية واكتفي بالصفة عن الموصوف، وأصبح هذا الوصف اسما، فمثل:

– المُدام: كانت صفة للخمر تعني “الذي أُديم في الدن” وهي الآن تُطلق على أنها اسم من أسماء الخمر.

– السيف: له اسم واحد هو السيف، وله أكثر من خمسين صفة لكل صفة دلالتها المميزة كالمهند “مصنوع في الهند” ومثله اليماني “مصنوع في اليمن” والحسام لحدته وسرعة قطعه.

2- اختلاط اللهجات العربية: فالشيء الواحد قد يسمى عند قبيلة بلفظ وعند أخرى بلفظ آخر،

 فالسكين في مكة هي مُدية عند بعض الأزد والقمح في الشام هو حنطة في الكوفة، وبر في الحجاز، والإناء من فخار: عند أهل مكة يدعى بُرمة، وعند أهل البصرة يسمى قدرًا.

البيت فوق البيت يسمى عِلّية عند أهل مكة، وأهل البصرة يسمونه غرفة.

3- اختلاط العرب بالفرس والروم والأحباش أدى إلى دخول عدد من كلماتهم إلى العربية، مثل كلمة النَّرجس، فهي عند العرب العَبْهر.

  • المجاز: سببٌ مهم من أسباب الترادف؛ مثل تسمية العسل بالسلاف (تشبيها بالخمر)، واللغة لسانًا لأنَّ اللسان آلة اللغة، والجاسوس عينًا لعلاقة الجزئية، – والرقيق رقبةً لعلاقة الجزئية.

  • التبسط في في استعمال الكلمة وعدم مراعاة دلالتها الصحيحة ما يؤدي إلى تداخلها مع غيرها.

في (فقه اللغة) للثعالبي” المائدة”: “لا يقال لها مائدة حتى يكون عليها طعام وإلا فهي خوان، والكأس: إذا كان فيها شراب وإلا فهي قدح، والكوز: إذا كان له عروة وإلا فهو كوب، والثرى إذا كان نديا وإلا فهو تراب”.

وقد مر معنا في مقال سابق إنكار نخند شحرور أن الكتاب هو القرآن، وقد ذكرنا هناك ان للقرآن (32) اسما وكلها في القرآن.

وقد ذكر القرآن الكريم أسماء متعددة للنار، منها: جَهَنَّمُ. ثُمَّ لَظَى. ثُمَّ الْحُطَمَةُ، ثُمَّ السَّعِيرُ، ثُمَّ سَقَرُ، ثُمَّ الْجَحِيمُ، ثُمَّ الْهَاوِيَةُ.

  • (جهنم). قال تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}. سُمِّيتْ نَارُ الْآخِرَةِ بِهَا لِبُعْدِ قَعْرِهَا.

  • (اللظى) قال تعالى {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى} قال الإمام الرازي :” وَلَظَى مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ. واللَّظَى، اللَّهَبُ الْخَالِصُ، يُقَالُ: لَظَّتِ النَّارُ تَلَظَّى لَظًى، وَتَلَظَّتْ تَلَظِّيًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {نَارًا تَلَظَّى} [اللَّيْلِ: 14].

  • (الْحُطَمَةُ) قال تعالى : {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} [الهمزة: 5]. اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ وَهِيَ الدَّرَكَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَرَكَاتِ النَّارِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ تَحْطِمُ الْعِظَامَ وَتَأْكُلُ اللُّحُومَ حَتَّى تَهْجُمَ عَلَى الْقُلُوبِ.

  • (السَّعِيرُ). قال تعالى : {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ}.

هُوَ النَّارُ الْمُسْتَعِرَةُ يُقَالُ: سَعَرْتُ النَّارَ أَسْعَرُهَا سَعْرًا فَهِي مَسْعُورَةٌ وَسَعِيرٌ، وَالسَّعِيرُ مَعْدُولٌ عَنْ مَسْعُورَةٍ كَمَا عُدِلَ كَفٌّ خَضِيبٌ عَنْ مَخْضُوبَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: سَعِيراً لِأَنَّ الْمُرَادَ نَارٌ مِنَ النِّيرَانِ مُبْهَمَةٌ لَا يَعْرِفُ غَايَةَ شِدَّتِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.

  • (سقر) قال تعالى : {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}.سَقَرته الشمسُ: أي لَوَّحته.

  • (الجحيم) قال تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}. وَهِيَ النَّارُ الْعَظِيمَةُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ نَارٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فَهِيَ جَحِيمُ.

  • (الهاوية). قال تعالى: {فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ}. والْهَاوِيَةَ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ وَكَأَنَّهَا النَّارُ الْعَمِيقَةُ يَهْوِي أَهْلُ النَّارِ فِيهَا مَهْوًى بَعِيدًا.

يضحُ لنا من تلك الأسماء أنها أسماء لمسمى واحد هو النار، فنحن أمام مترادفات عدة لمسمى واحد ، كل اسم له صفة تميزه عن الاسم الآخر، فإذا توعد الله سبحانه الكافر في آية بجهنم، وتوعده في آية ثانية بسقر، وتوعده الثالثة بالحطمة أو اللظى، أو الهاوية فإنما هي أسماء لجهنم وجهنم هي النار.

هذه نبذة مختصرة عن مفهوم الترادف الذي أنكره محمد شحرور، وقد عرفنا مما سبق أنه موجود ولا مجال لإنكاره أو جحوده، ولكن هيهات هيهات أن يكون شحرور قد قرأ شيئا عنه، فضلا عن دراسته وفهمه والتنظير له! وكل ما في الأمر أنه قيل له: قل فقال. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. في ردٍ رصين، يفنّد د. أحمد الزبيدي زيف إنكار الترادف، مبيّنًا أن العربية لا تُكرّر، بل تتفنّن، وأن الفقه أرسخ من أن يهدمه جهل لغوي.
    مقال يُعيد للبيان سلطانه، وللعقل مساره، وللكلمة العربية شرفها الذي لا يطاله الغبار.

اترك رداً على د عبدالإله/ دبي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى