مقالات

دراسات قرآنية ( 28) د . أحمد الزبيدي – الإمارات

"خَلْق القُرآن" - المحنةُ (2)

د. أحمد الزبيدي

بين فان إس و فهمي جدعان

تحدثنا في المقال السابق عن موقف المستشرقين؛ من محنة الإمام أحمد، وغيره من العلماء، والفقهاء، والقراء، والمحدثين، ورأينا كيف بدأت، وكيف سارت، ثم كيف كانت نهايتها !.

وحديثنا في هذا المقال نقصره فقط على مسألة (خلق القرآن) بين المستشرق الكبير (فان إس) وتلميذه د. فهمي جدعان؛ أحد أهم أصحاب مشروع (تجديد التراث) الذي أسسه -حسب زعمه- على منهج علمي تاريخي متين، يوظف فيه العلوم الإنسانية، من أجل إنزال التراث منزلته اللائقة به، وإعطائه قيمته الحقيقية، والإبقاء على جوهره النقي، وتنقيته ممن زيف جوهره، وشوه مظهره!.

و مفهوم “الزائف” في نظر جدعان يحظى بتعريف خاص، فهو ما رآه عند بعض المفكرين من خضوع تام، واستخذاء كامل للقيم الغربية، وما شاهده من غياب النقد لتلك القيم، في حين يرى الاستعداد، والاستعداء، والاستقواء على الإسلام في أزهى صوره، من خلال التفنن في نقده، واتهامه،وإيذائه، وإلصاق العيوب فيه.

يقول د. فهمي جدعان في كتابه: “أسس التقدم عند مفكري الإسلام” (ص331):” (والذي يثير الاهتمام لدى الكتاب التغريبيين -من المصريين خاصة- هذا الانقياد الكامل العجيب للقيم الغربية، وهذا الغياب المطلق لكل روح نقدية بإزاء هذه القيم، فلقد اشتعلت رؤوسهم ذكاء ونقداً للمدنية العربية الإسلامية؛ بينما تقلص هذا الذكاء تقلصاً كاملاً بإزاء المدنية الغربية التي كانت تلاقي في عقر دارها في الفترة نفسها انتقادات لا ترحم).

ومن الزائف أيضا في-نظر جدعان- هو غمط حق المفكرين السابقين بالنقل عنهم، وتبني استنتاجاتهم، دون الإشارة إلى مصادرهم، أو التنويه بجهودهم وأسمائهم، وهو يعني بذلك كله صديقه وزميله الحداثي المفكر محمد عابد الجابري الذي سطا على كتابه (المحنة)، جهارًا نهارًا، ففي حوار له مع صحيفة “الشرق الأوسط” العدد (5946) قال جدعان:” حين اطلعت على مقالات صديقي الجابري، شعرت بخيبة أمل كبيرة…، لقد ساق الجابري وقائع المحنة وجملة متعلقاتها التاريخية من الكتاب نفسه- يقصد كتابه- حذو النعل بالنعل.. أجدني مضطرًا إلى القول أن القسم الخاص بمحنة أحمد بن حنبل من مقالات الصديق الجابري ليس إلا تلاخيص وحواشي على كتاب المحنة”.

ومحمد عابد الجابري هو -صاحب سلسلة “العقل العربي؛ بنيةً، وتكوينا، ونقدا”- الذي سطا على كتاب:(المحنة بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام) ولم يشر إليه إلا إشارة جزئية عابرة لا تتناسب مع حجم ما نقله عنه، بما يخالف المتعارف عليه “في الدوائر العلمية الجادة” حسب تعبير جدعان.

وكان جدعان قد حذّر في كتابه: “الطريق” إلى المستقبل (ص92) من الانبهار بأصحاب “مشاريع العقل العربي” التي صدرت في: “مجلدات مهيبة لكنها جاءت حافلة بالمسائل الخلافية وبالتأويلات الشاردة أو المبتسرة … وتلقفتها وسائل البث الإعلامي الأيديولوجي “الموازية” وسعت إلى توظيفها في غايات سياسية أو أيديولوجية”.

وقد لفتني تعقب جدعان للجابري في عدد من القضايا المهمة التي يؤسس لها مشروعه النهضوي، ثم مخالفته ورده عليه دون أن يذكر اسمه؛ مثل هجومه على من يدعي أن العقل وحده قادر على تغيير المجتمع وإصلاحه، دون الاستعانة بتغيير الواقع السياسي والاجتماعي،  وهجومه على من يتبنى نظرة الصراع الطبقي، غافلا عن دور السياسة الفاعل.

 ومن المعلوم لكل من قرأ الجابري بأن هاتين النقطتين هما أبرز ما يبني عليهما الجابري في كتبه، ومقالاته، ومحاضراته، على أن جدعان قد وقع في ما كان يعيب به على الجابري وغيره؛ من الذين يسطون على نتاج الآخر دون الإشارة لذلك.

وقديما قال المتوكل الليثي:

لا تَنْهَ عَنْ خُلُقِ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ

عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ

وفد ألَّف د. فهمي جدعان- من مواليد فلسطين- عددًا من الكتب الفلسفية والأبحاث الفكرية باللغتين؛ العربية والفرنسية، أهمها: “تحرير الإسلام”، “خارج السرب”، “أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث”، “الفارابي” ، “هوميروس عند العرب”،  “التأثير الرواقي في الفكر الإسلامي”، “المحنة.. بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام”.

الكتاب الأخير هو موضوع هذا المقال،  ويرى بعض الباحثين أن د. فهمي جدعان على الرغم من اهتمامه المبكر في دراسته للمعتزلة وأفكارها، وتحديدا في مسألة (خلق القرآن)، إلا أنه لم يتنبه لأطروحة جوزيف فان إس فيها، ومما يؤكد هذا أنه فرغَ من إعداد أطروحته في نهاية الستينيات، التي تضمنت بعض فصولها (خلق القرآن عند القاضي عبد الجبار من خلال كتابه المغني)، وأنه جرى في بحثه ورأيه مثل سابقيه على الرواية المشهورة عن تاريخ المحنة.

ومن الطريف أن جدعان عقب طبع بحثه “تأثير الرواقية في الفكر الإسلامي” عام 1968م ، نشر المستشرق الفرنسي (فاجدا) عام 1070م نقدا لكتاب جدعان، ومما قال في نقده “إنه خالٍ من الإشارة إلى أطروحة فان إس”، ويظهر لي أن فهمي جدعان اطلع على نقد (فاجدا) له فأسرها في نفسه، حتى إذا ابتُعث إلى ألمانيا عام 1986م تحقق له مراده وأمنيته في لقاء صاحب الأطروحة (فان إس) -بشحمه ولحمه- وسمع منه، وأخذ عنه الأدلة الموهومة التي اتكأ عليها في أطروحته.

ومهما يكن من أمر فإن د. فهمي جدعان لم يكذب خبرا -كما يقال-، رجع من ألمانيا، وفور رجوعه نهض ليباشر في تلخيص أطروحة أستاذه ونشرها تحت عنوان “المحنة، بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام”، في مايو/ أيار عام 1989م ، ناسبا هذا الكشف لنفسه، وقد وقع الكتاب في 448 صفحة من القطع المتوسط، قسمه المؤلف على مقدمة، ومدخل، وخمسة فصول عرض فيه وقائع محنة “خلق القرآن” في إطارها الزمني وتصاعد أحداثها حتى انتهائها على يد الخليفة المتوكل.

وأنا لا أشك أن جدعان صنع ذلك على عين أستاذه، ولا أستبعد أن يكون بتشجيع منه، ولم لا وقد شكره فان إس بعد ذلك وأثنى عليه،  ولم لا والهدف من البحث هو تبييض صفحة المعتزلة مما لحق بها من سواد، وتبرئتهم من العسف والاستبداد، وإلحاقهم بأهل المودة والصفاء والوِداد.

ومما يذكر للدكتور فهمي جدعان أنه لم يخف هدفه الرئيس من البحث، فقد صرح في مقدمة كتابه بغرضه الأساس من تأليف الكتاب، قال:” وأنا إذ أعاود النظر في هذه القضية المعقدة أدرك منذ البداية انني أخوض معركة؛ البداهات هي خصمي الألد فيها، وأنني أسير تماما في الاتجاه المعاكس لمجرى التيار، وذلك عند أمرين اثنين على الأقل: الأول: أنني أريد أن أنأى بالمعتزلة نأيا يشبه أن يكون تاما عن عملية الامتحان التي نسبت إليهم…، الثاني: انني أريد أن أنظر في مسألة المحنة لا بما هي قضية كلامية أو اعتقادية خالصة، وإنما بما هي حالة تبين صيغة العلاقة بين السلطة والطاعة”.

ولو ذهبنا نقارن بين الأفكار الرئيسة التي وردت في كتاب فان إس لوجدنا العبارات نفسها هي الموجودة في كتاب جدعان، فعلى سبيل المثال، في الوقت الذي نجد فيه (فان إس) يبريء المعتزلة من المحنة ويلصقها بشرًا المريسي، يأتي جدعان ليؤكد على ذلك ويقول في (ص85):” وأما المعتزلة فمن الواضح أنهم ليس لدينا أي دليل على أي دور مهم لهم في هذه المسألة في عهد المأمون”.

ونقرأ في كتاب فإن فان إس عبارات التهوين من فداحة محنة الإمام أحمد ، فيجيء جدعان ليقول هو الآخر في (ص153):” مقدار الضرر الذي ألحق بابن حنبل في المحنة ..، يذكر بعضهم أنه ضرب ثمانين سوطاً، ويذكر آخر انه ضرب ستة وثلاثين، ويورد ثالث ثمانية وثلاثين، ويشتط بعضهم فيتكلم على خمسين ومائة جلدة، وهذه مسألة …تدل بوضوح على ان محنة الإمام أحمد لم تكن جسيمة، وان ما جرى لا يتناسب مع الضجة التي أثارتها وسائل الاتصال والبث الحنبلية”.

وانظر معي كيف كالَ د. جدعان بمكيالين؛ فحكم على القول بالعدد (150) بأنه شطط ، وسكت عن التعليق القول بالعدد (36) ! .

وقديماً قالوا : ” بالمثال يتضح المقال”، والمثال هنا هو اعتذار (فان إس) للمعتزلة ورئيسهم ابن أبي دؤاد عن دورهم المعيب في المحنة، بأنهم كانوا يقومون بمهام أعمالهم، وهم موظفون مأمورون! حتى إذا تكلم جدعان عن ذات الموضوع قال:” حالات أخرى لمعتزلة واقعيين، عملوا في خدمة السلطان بنزاهة وتجرد، والأرجح أن يكون مبدأ عملهم هو التسليم بالواقع القائم على علاته، والعمل من أجل أن يكون على أفضل صورة ممكنة، وهذا بلا شك حال أولئك المعتزلة الذين استخدمتهم الخلافة في الدواوين، وكذلك ثناء (فان إس) على ابن أبي دؤاد ووصفه بأنه ورع ومتسامح وذو إنسانية، ياتي جدعان ليعيد صياغة ما قرره أستاذه فيقول في (ص101):” فهو فقيه حنفي ذو ورع”، وقِس على هذا باقي الكلام في سائر صفحات الكتاب.

ولولا أن يمل القاريء ويَكل لأتينا بكل كلام فان إس وما يقابله من صورة طبق الأصل من كلام د. فهمي جدعان، ولكنهم قالوا :”مالا يدرك كله لا يترك جله”.

ومن الطرائف بعد كل هذا أن يأتي جدعان بكل ثقة واطمئنان ويقول: ” وقد أفصحت مرة واحدة تقريبا عن المقاصد البعيدة لهذا النظر “الابتداعي” في محنة خلق القرآن”، فهو يرى في نفسه أنه صاحب مذهب جديد في النظر إلى التراث، قال: “وغاية مطمح البصر والنفس بعد ذلك كله، ان يكون هذا الذي بذلته من وسع …، مذهبا جديدا في النظر إلى مادة التراث.

وما أشبهَ اليومَ بالأمس!، حينما سطا طه حسين على مقالة المستشرق (مرجليوث)، في الشعر الجاهلي وادعاها لنفسه، ثم وضعها في كتاب باسم “في الشعر الجاهلي” .

ولا نريد أن نطيل أكثر من هذا، ولنختم مقالنا هذا بشهادة الحيي صاحب الخلق الكريم د. رضوان السيد بكتاب صديقه وزميله في التلمذة على المستشرق فان إس كتاب (المحنة).

قال د. رضوان السيد وقد سئل في حوار صحفي له مع صحيفة “الشرق الوسط” العدد (5988) عن الكتاب: “فهمي جدعان بعمله الدؤوب، وطوال عدة سنوات، وبجهده الخاص، وبمناقشاته الكثيرة مع أستاذي “فان إس”، الذي أصدر أيضا عملا يعنى بمحيط المحنة، استطاع أن ينجز بقدرته التركيبية والتحليلية، كتابا مقنعا، يهدم عدة مسلمات، فأثبت ان المعتزلة لم يكونوا مجمعين على مسألة خلق القرآن، وأن منهم فئات كثيرة كانت ضد المأمون، وهذا يعني انهم لم يكونوا مسئولين عن المحنة، وبرأيي أن أستاذي “فان إس” أثبت الشيء نفسه”.

وبهذه الكلمات المختصرة المفيدة لم يستطع د. رضوان السيد على الرغم مما يمتاز به من حياء، ودماثة أخلاق، وحسن معشر، وأخيرا ما يربطه من صداقة بالدكتور فهمي جدعان ما استطاع إلا أن يثبت شهادته للتاريخ بأن ما انتهى إليه صديقه فهمي جدعان من (اكتشاف علمي) جاء نتيجة نقاشه مع “فان إس” وأن “فان إس” هو    المُجَلِّي، وان فهمي جدعان- في احسن الأحوال هو: المُصَلِّي، وليس كما وصف نفسه بأنه: ناظم الفقر الشاردة، ومقتنص الْمعَانِي الصادرة والواردة، وَصَاحب القريحة الملتهبة ، والبديهة المنتظمة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫6 تعليقات

  1. مقالتكم – يا د. أحمد – صرح من التحقيق والرؤية الناقدة؛ أزحتم به غبار الوهم، وكشفتم زيف ما نُسب إلى الأصالة فإذا هو رجع صدى مستعار. لقد جمعتم دقة المؤرخ وعمق الناقد، فجاء النص شاهداً على رسوخ قدمكم في ميدان البحث. فشكرًا لكم على جهد يرفع الفكر ويشرّف القلم

  2. سلمت يمناك دكتور أحمد ،بحفظ الله ورعايته ،
    اللهم اجعل القرآن نور صدورنا وربيع قلوبنا.

  3. د أحمد : .الله يعطيك العافية لقد اوفيت على الغاية، جزاك الله عنا وعن القراء كل الخير مع المحبة والاحترام والتقدير لشخصك الكريم ولكريم حديثك وطيب منطقك علمك تحياتي

  4. بوركت دكتورنا الغالي، وبورك قلمك..
    دكتورنا الفاضل:
    هلا كتبت لقرائك ومحبيك عن حقيقة الرافضة بمنهج علمي بعيدا عن التعصب ، وأجرك على الله، فلقد اختلط عند الناس الحابل بالنابل
    ولم نعد ندري الحق من الباطل، والصحيح من الخاطيء.

  5. دكتور أحمد الزبيدي: بورك هذا القلم المبدع المتتبع للأفكار إلى منابعها الأولى.

    هذه الفقرة ربما تحتاج إلى توضيح:

    “وأنا لا أشك أن جدعان صنع ذلك على عين أستاذه، ولا أستبعد أن يكون بتشجيع منه، ولم لا وقد شكره فان إس بعد ذلك وأثنى عليه، ولم لا والهدف من البحث هو تبييض صفحة المعتزلة مما لحق بها من سواد، وتبرئتهم من العسف والاستبداد، وإلحاقهم بأهل المودة والصفاء والوِداد.”

    هل المقصود أن فهمي جدعان سرق من المستشرق فكرته، أم أنه أعاد إنتاج الفكرة بناءً على طلب ڤان إس؟

اترك رداً على عمر الزبيدي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى