مقالات

وقفات مع المتنبي (48) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

قال أبو الطيب المتنبي -رحمه الله- في “معجز أحمد” (ص5):

يُعطي فلا مَطْلُهُ يُكَدِّرُها

بهِ ولا مَنُّهُ يُنَكِّدُها

أي: لا يمطل إذا وعد الاحسان، ولا يمن إذا اعطى. ويُنَكِّدُه: يُنغصه ويقلل خيره. وقالوا: المنةُ تهدم الصَّنيعة، ولهذا مدح الله سبحانه قومًا فقال تعالى: {ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى}، وسيأتي تفسيرها

والمَنّ: مصدر منّ عليه منًّا، وهو مأخوذ من مادّة (م ن ن) الّتي تدلّ علي أصلين: أحدهما القطع والانقطاع، والآخر على اصطناع خير.

 فَمِن الأوّل: مننتُ الحبل: قطعته، قال تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}. [التين 6] ومنه: منّ بيد أسداها، إذا قرّع بها. وهذا يدلّ على أنّه قطع الإحسان.

ومن هنا يقال: “المَنُّ أخو المنّ”، أي: الامتنان بتعديد الصّنائع أخو القطع والهدم.

 ومن الثّانى: منّ يمنّ منًّا، إذا صنع صنعا جميلا .

قال الإمام الفخر الرازي-مفاتيح الغيب-(ج7: ص40):” الْمَنُّ فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ:

 أَحَدُهَا: بِمَعْنَى الْإِنْعَامِ، يُقَالُ: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى فُلَانٍ، إِذَا أَنْعَمَ، أَوْ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِنَّةٌ، وَأَنْشَدَ ابْنُ الأنباري:

فَمُنِّي عَلَيْنَا بِالسَّلَامِ فَإِنَّمَا

كَلَامُكِ يَاقُوتٌ وَدُرٌّ مُنَظَّمُ

ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم: “إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر”. البخاري ( 3904)، يريد أكثر إنعامًا بماله، وأيضا الله تعالى يوصف بأنه منّان أي منعم.

والوجه الثاني: المَنُّ: النقص من الحق والبخس له، قال تعالى: {وإن لك لأجرا غير ممنون}، أي: غير مقطوع، وغير ممنوع، ومنه سمي الموت: مَنونا لأنه ينقص الأعمار، ويقطع الأعذار: ومن هذا الباب المنة المذمومة، لأن ينقص النعمة، ويكدرها، والعرب يمتدحون بترك المن بالنعمة، قال قائلهم:

زَادَ مَعْرُوفَكَ عِنْدِي عِظَمًا

 أَنَّهُ عِنْدِيَ مَسْتُورٌ حَقِيرُ

تَتَنَاسَاهُ كَأَنْ لَمْ تَأْتِهِ

وَهْوَ فِي الْعَالَمِ مَشْهُورٌ كَثِيرُ

إذا عرفت هذا فنقول: المن هو إظهار الاصطناع إليهم، والأذى شكايته منهم بسبب ما أعطاهم وإنما كان المن مذموما لوجوه:

 الأول: أن الفقير الآخذ للصدقة منكسرُ القلب لأجل حاجته إلى صدقة غير معترف باليد العليا للمعطي، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك إظهار ذلك الإنعام، زاد ذلك في انكسار قلبه، فيكون في حكم المضرة بعد المنفعة، وفي حكم المسيء إليه بعد أن أحسن إليه.

 والثاني: إظهار المن يبعد أهل الحاجة عن الرغبة في صدقته إذا اشتهر من طريقه ذلك.

 الثالث: أن المعطي يجب أن يعتقد أن هذه النعمة من الله تعالى عليه، وأن يعتقد أن لله عليه نعما عظيمة حيث وفقه لهذا العمل، وأن يخاف أنه هل قرن بهذا الإنعام ما يخرجه عن قبول الله إياه، ومتى كان الأمر كذلك امتنع أن يجعله منة على الغير.

 الرابع: وهو السرّ الأصلي، أنه إن علم أن ذلك الإعطاء إنما تيسر لأن الله تعالى هيأ له أسباب الإعطاء وأزال أسباب المنع، ومتى كان الأمر كذلك كان المعطي هو الله في الحقيقة لا العبد، فالعبد إذا كان في هذه الدرجة كان قلبه مستنيرا بنور الله تعالى وإذا لم يكن كذلك بل كان مشغولا بالأسباب الجسمانية الظاهرة وكان محرومًا عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقة فكان في درجة البهائم الذين لا يترقى نظرهم عن المحسوس إلى المعقول وعن الآثار إلى المؤثر.

 وأما الأذى فقد اختلفوا فيه، منهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين وليس ذلك بالمن بل يجب أن يكون مختصا بما تقدم ذكره وهو مثل أن يقول للفقير: أنت أبدا تجيئني بالإيلام وفرج الله عني منك وباعد ما بيني وبينك، فبين سبحانه وتعالى أن من أنفق ماله ثم إنه لا يتبعه المن والأذى فله الأجر العظيم والثواب الجزيل.

فإن قيل: ظاهر اللفظ أنهما بمجموعهما يبطلان الأجر فيلزم أنه لو وجد أحدهما دون الثاني لا يبطل الأجر.

قلنا: بل الشرط أن لا يوجد واحد منهما لأن قوله: {لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى}، يقتضي أن لا يقع منه لا هذا ولا ذاك.

المسألة الرابعة: الآية دلت أن المن والأذى من الكبائر، حيث تخرج هذه الطاعة العظيمة بسبب كل واحد منهما عن أن تفيد ذلك الثواب الجزيل.

يقول الرّاغب الأصفهاني في-مفردات القرآن-(ص77) : المِنَّةُ: النّعمة الثّقيلة، والمنّان من أسماء الله تعالى. ومنّ عليه منّة، أي امتنّ عليه، قال أبو عبيد: رجل منونة: كثير الامتنان، ومننت عليه منّا عددت له ما فعلت له من الصّنائع، مثل أن تقول أعطيتك وفعلت لك، وهو تكدير وتغيير تنكسر منه القلوب، فلهذا نهى الشّارع عنه بقوله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى}. [البقرة 264]. وفي الحديث الصحيح «ثلاثة يشنؤهم الله، منهم البخيل المنّان»، وقد يقع المنّان على الّذي لا يعطي شيئا إلّا منّه، واعتدّ به على من أعطاه، وهو مذموم.

والمنون من النّساء الّتي تزوّج لمالها فهي أبدا تمنّ على زوجها، والمنّانة كالمنون. وقال بعض العرب: لا تتزوّجنّ حنّانة ولا منّانة.

وقال أبو حيّان الأندلسي في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}. (البقرة/ 262) ، أصل المنّ القطع، لأنّ المنعم يقطع قطعة من ماله لمن ينعم عليه، والمنّ (أيضا) النّقص من الحقّ والبخس له، ومنه المنّ المذموم، وهو ذكر المنّة للمنعم عليه على سبيل الفخر عليه بذلك والاعتداد عليه بإحسانه» .

 قال الشاعر:

 أفْسَدْتَ بالمَنّ مَا أسْدَيتَ من حَسَنٍ

 لَيْسَ الكَرِيمُ إِذا أعْطَى بِمَنَّانِ

لفتة بلاغية:

وانظر معي إلى الشطر الثاني كيف يؤكّد به الشاعر معنى الشطر الأوّل ، فصار هذا البيت مما يجري مجرى المثل.

ويشبه في ذلك قول أبي الطيب المتنبي :

مَا كُلُّ مَا يتمنَّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ

تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لاَ تَشْتَهِي السُّفُنُ

قال العكبري: وهو من أحسن الكلام.

قال الإمام ابن الشجري في “الأمالي”: (ج1: ص298):” أراد: فلا مطله بها، فلمّا فصل بالأجنبىّ، بين المصدر والباء، أضمر للباء ما تتعلّق به، بعد قوله: يكدّرها، وتقديره: لا يمطل بها، ومن هذا الضّرب في التنزيل: {إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ} المعنى: إنه على رجعه يوم تبلى السرائر لقادر، ولمّا فصل خبر إنّ بين المصدر الذى هو الرّجع، وبين الظّرف، بطل  عمله فيه، فلزم إضمار ناصب من لفظ الرّجع، فكأنه قيل: يرجعه يوم تبلى السرائر.

والمطل بإنجاز الوعد، مأخوذ من قولهم: مطلت الحديدة: إذا ضربتها بالميقعة لتطول، وشبّهوا بذلك إطالة العدات، والمنّ بالنّعمة: التّقريع بها.

وكلّ ما خرج إلى طالبه بشدّة فهو نكد، وقوله عزّ من قائل: {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً}، قيل معناه: قليلا عسيرا. والهاءات من قوله: يكدّرها وينكّدها، عائدة على الأيادى.

قال امرؤ القيس يصف طريقًا غير مسلوكة:

عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ

إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النُّبَاطِيُّ جَرْجَرا

المعنى: “ليس به منار فيهتدى به”.

وأراد بقوله: لا يهتدى بمناره أنه لا منار له؛ فيهتدى به، والعوْد: المسن من الإبل. والدِّيافي: منسوب إلى ديِاف قرية بالشام معروفة. وسافَهُ: شمَّه. والجرْجرة مثل الهدير، وإنما أراد أن العود إذا شمه عرفه، فاستبعده، وذكر ما يلحقه فيه من المشقة فجرْجَر لذلك.

قال ابن الشجري: لم يرد أن فيه منارا لا يهتدى به، ولكنّه نفى أن يكون به منار، والمعنى لا منار فيه فيهتدى به، ومنه قول عمرو بن أحمر الباهلي فى وصف مفازة:

لَا تُفْزِعُ الْأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا

وَلاَ تَرَى الضّبَّ فيها يَنْجَحِر

لم يرد أنّ بها أرانب لا تفزعها أهوالها، ولا ضبابا غير منجحرة، ولكنه نفى أن يكون بها حيوان.

قال صاحب “نواهد الأبكار”: والبيت من نفي الشيء بإيجابه.

قال صاحب “شرح الشواهد الشعرية” (ج1: ص383):”واستشهدوا بهذا البيت على أنّ قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. [الشورى: 11]، النفي فيه منصبّ على مثل مثله وعلى مثله جميعا، فليس لله مثل حتى يكون لمثله شيء يماثله، فالمنفيّ المثل ومثل المثل جميعًا.

قالوا: وهذا كقول عمرو بن أحمر في وصف فلاة.

وأنا أقول: إنّ قول الشاعر  بمعنى قوله تعالى ، فقول الله تعالى، مشبّه به، لأنه الأثبت والأقوى، ذلك أن الشاعر لم يرد أنّ بها أرانب لا تفزعها أهوالها، ولا ضبابا غير منجحرة ولكنه نفى أن يكون بها حيوان.

فحقيقة المعنى أنها أياد لا يكدّرها مطل، ولا ينكّدها مَنٌّ.

وقولُ امرئ القيس: «على لاحب»: أي: على طريق واضح، ويقال له: لحب أيضا، والمنار: جمع منارة، وأصلها منورة، مفعلة من النّور، وسمّيت بذلك لأنها في الأصل: كلّ مرتفع عليه نار، ولذلك قالوا في جمعها: مناور.

قال الشّعبيّ: «من لم ير نفسه إلى ثواب الصّدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه».

قال حجة الإسلام في “الإحياء” (ج1:ص216):” واختلفوا في حقيقة المن والأذى، فقيل: المن: أن يذكرها، والأذى أن يظهرها.

قال سفيان: «من مَنّ فسدت صدقته» ، فقيل له: كيف المنّ؟. فقال: «أن يذكره ويتحدّث به».

وقيل: المَن: أن يستخدمه بالعطاء، والأذى أن يعيره بالفقر، وقيل المن أن يتكبر عليه لأجل عطائه، والأذى أن ينتهره أو يوبخه بالمسألة.

وأضاف الغزالي: وعندي؛ أن المن له أصل ومغرس وهو من أحوال القلب وصفاته، ثم يتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح، فأصله أن يرى نفسه محسناً إليه، وَمُنْعِمًا عَلَيْهِ وَحَقُّهُ أَنْ يَرَى الْفَقِيرَ مُحْسِنًا إِلَيْهِ بِقَبُولِ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ الَّذِي هُوَ طُهْرَتُهُ وَنَجَاتُهُ مِنَ النَّارِ وَأَنَّهُ لو يَقْبَلْهُ لَبَقِيَ مُرْتَهِنًا بِهِ فَحَقُّهُ أَنْ يَتَقَلَّدَ منه الفقير إذ جعل كفه نائباً عن الله عز وجل في قبض حق الله عز وجل.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إن الصدقة تقع بيد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل”، فليتحقق أنه مسلم إلى الله عز وجل حقه والفقير آخذ من الله تعالى رزقه بعد صيرورته إلى الله عز وجل.

وأما الأذى فظاهره التوبيخ، والتعيير، وتخشين الكلام، وتقطيب الوجه، وهتك الستر بالإظهار، وفنون الاستخفاف، وباطنه وهو منبعه أمران:

 أحدهما: كراهيته لرفع اليد عن المال وشدة ذلك على نفسه، فإن ذلك يضيق الخلق لا محالة.

 والثاني: رؤيته أنه خير من الفقير وأن الفقير لسبب حاجته أخس منه، وكلاهما منشؤه الجهل، أما كراهية تسليم المال فهو حمق لأن من كره بذل درهم في مقابلة ما يساوي ألفاً فهو شديد الحمق ومعلوم أنه يبذل المال لطلب رضا الله عز وجل والثواب في الدار الآخرة وذلك أشرف مما بذله أو يبذله لتطهير نفسه عن رذيلة البخل أو شكراً لطلب المزيد وكيفما فرض فالكراهة لا وجه لها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. صباح العطاء الدائم الغير منقطع
    شعرا ونثرا ,حكما ونصائح زادك الله علما ورفعه يا دكتور ابو محمد
    وجزاك كل الخير عما تقدمه لنا.

اترك رداً على WAIL AL HALBOUNI إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى