مقالات

ضريبة الممارسات الفرنسية.. خسارة كروية د. أحمد الزبيدي      –      الإمارات

د. أحمد الزبيدي

  وقف مشجعو الساحرة المستديرة..الكرة الصغيرة على أطراف الكرة الكبيرة، بمختلف لغاتهم، ومتنوع لهجاتهم، وعديد ألوانهم وجنسياتهم مساء اليوم الأخير لمونديال 2022 الذي ضم منتخبي الأرجنتين  وفرنسا، كلٌّ يحبسُ أنفاسَه، ويوقدُ ديماسَه، ليجتني استيناسَه ” كلٌّ منهم يُشجع فريقَه، ويُلمع بريقه، ويحيي غريقَه، وقفوا يبتهلون، إلى الله يتضرعون أن ينصرهم في ما يحبون، وقد تخللت المباراة لحظات وقف الجميع فيها وكأنّ على ‌رؤوسهم ‌الطير، وقفوا منتظرين..وجلين مترقبين، على مثل جمر الغضا يجلسون..

كلٌّ يخاف الكرةَ أن تدخلَ شِباكَه، ويذود أن تُداسَ حياضه، ويعضدُ شُّبّاكه.-نوع من النبات- وما أن انطلقت صافرة الحكم تعلن انتهاء المباراة حتى هاجوا وماجوا، وهشوا وبشوا ،فَعَلَتْ أصوات ‌الزغاريد، ودوت صيحات الأهازيج، إنها الفرحة الكبرى، إنها انتصار الأرجنتين وهزيمة فرنسا!! ولكن، لم كل هذا الهرج والمرج، وعلام هذا الفرح والترح؟؟ فرح بالأرجنتين،وشماتة بالفرنسيين !! إذا رجعنا إلى الوراء قليلًا ونظرنا إلى تاريخ فرنسا نجده تاريخًا حافلًا يعج بأبشع صور الاحتلال وأشنعها فتكًا للعباد ، وإفسادًا للبلاد. “يقول المؤرخ “يوجين روجان” في كتاب “معضلة التنمية الاستعمارية” :” إن العالم العربي لم يشهد استعمارًا استيطانيًا كالاستعمار الفرنسي في الجزائر إلا في فلسطين”، وحسبك بها شهادة من مؤرخ فرنسي!

ولا يظن القارئ أنني أتحدث عن ويلاتهم  مع العرب والمسلمين،أستغفر الله،  إنها حروبهم مع “بريطانيا”، وحسبك أن حربًا واحدة منها استمرت 100عام كما أطلق عليها عدد من الكتاب والمؤرخين الفرنسيين مثل فيليب كونتامين  والكاتب المؤرخ ثيودور وهي الحرب الأطول في التاريخ، إذ بدأت عام  1337 حتى عام  1453، وتعاقب خلالها خمسةُ ملوك على حكم فرنسا، وخمسةُ ملوك على حكم بريطانيا قبل أن تضع الحرب أوزارها.. أما حروب فرنسا الدينية الثمانية التي استمرت لثلاثين سنة ونيف، حيث كان الصراع  فيها بين البروتستانت والكاثوليك، وأنا هنا لا أريد أن أنبش في التاريخ الهمجي “العنيف” فهذا شيء جد مخيف ، وتعافه النفس العَيوف، ويضيق به القلب الرؤوف. وبعد، فهذا ‌غيض ‌من ‌فيض، وقليل من كثير.

أما الحديث عن حروب نابليون  فحديث يمتد على امتدادها التي طالت أوروبا أجمعها، فأحرقت بلهيبها الأخضر واليابس، فمنذ اليوم الذي تولى فيه القائد الشاب –نابليون- مقاليد الحكم سنة 1799 اشتعلت الحروب، وقطعت الدروب، ولم تخمد جذوتها إلا يوم 18 يوليو 1815 بعد هزيمة نابليون النهائية في معركة واترلو وتوقيع معاهدة باريس الثانية.

 فنابليون هو الذي ادعى الكثلكة في حرب الفنديين، وأسلم بهدف خداع المصريين ، وجهر بعصمة البابا في حربه مع الطليان ؛ وقال قولته الشهيرة: “لو كنت أحكم شعبًا يهوديًا لأعدت هيكل سليمان”!  غير أنه لم يلبث أن سقط القناع، فنكل بالمصريين، وكال لهم القتل بالصاع.. مثنى وثلاث ورباع، و أباح لجنوده أن يتخذوا من الأزهر  اصطبلاً لخيلهم، وأن يحرقوا الشعب بالنفط، ويضيقوا الخناق على القاهرة وما حولها ثم يذيقوهم من المواد الملتهبة، ولم يرض غروره وتعطشه للدماء حتى كتب إلى قواده يأمرهم بقطع خمسة رؤوس كل يوم.

وجدير بالذكر أن الشعب المصري كان تعداده إبان الحملة الفرنسية لا يتجاوز2460000  نسمة – وقد قام الفرنسيون يومذاك بقتل 1/7 من الشعب المصري، وهو عدد كبير جدًا، فضربوا بذلك رقمًا قياسيًا في الإبادة الجماعية ، وكان ذلك في مدة لا تتجاوز السنوات الثلاث.وما فعلوه إبان احتلالهم للجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا أضعاف ما فعلوه في مصر وسوريا ولبنان، ومعلوم أن ﻓﺮﻧﺴﺎ ﺍﺣﺘﻠﺖ ﺍﻟﺠﺰﺍﺋﺮ مدة 132 ﺳﻨﺔ استُشهد  فيها أكثر من ﻣﻠﻴﻮﻥ ﻣﺴﻠﻢ ﻓﻲ السنوات السبع الأولى، ﻭﻣﻠﻴﻮﻥ ﻭﻧﺼﻒ ﺍﻟﻤﻠﻴﻮﻥ ﻓﻲ السنوات السبع الأخيرة.  وحسبك أنهم  أحرقوا  ثلثي سكان ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺍﻷﻏﻮﺍﻁ ﺍﻟﺠﺰﺍﺋﺮﻳﺔ حرقًا.أما تجاربهم النووية التي اقتربت من العشرين  فقد جُرِّبتْ كلها في الجزائر ولا بأس في أن يقع  عشرات الآلاف ﻣﻦ ﺍﻟﻀﺤﺎﻳﺎ والنسبة تزدادا كل يوم، وحينما هموا بالخروج من الجزائر ﻋﺎﻡ 1962ﻡ تركوا للجزائريين هدية غالية، وذكريات لا تنسى، تذكرهم دائمًا بعاصمة النور والحرية “باريس”، فقد زرعوا الأرض متفجرات وألغامًا أربت على 11 ﻣﻠﻴﻮنًا ،في حين أن ﻋﺪﺩ ﺳﻜﺎﻥ ﺍﻟﺠﺰﺍﺋﺮ ﻭﻗﺘﻬﺎ أقل من ذلك.فأي عدل أكثر من هذا، أن خصوا  كل مسلم بلغم أرضي!!

 وهوت فرنسا، فلم تغن عنها حصونها المنيعة ولا جيشها المدرب. وغدت باريس – ‌عاصمة ‌النور – مسرحاً لأعدائها يصولون فيها ويجولون.

وقد اختلف الفلاسفة والمحللون في سبب ذلك، غير أن الحكيم الكبير رومان رولان جلا بوضوح نكبة فرنسا التي مهد لها الضعف الأخلاقي في الأوضاع الاجتماعية والأدبية بعد الحرب الأولى قاضياً على عزة النفوس، وأمسى الرجل المسؤول لا يفكر إلا في قضاء شهواته الحقيرة. بعد هذه الجولة السريعة، ومشاهدتنا الكوارث المريعة، هل نستغرب أن يفرح العرب والمسلمون بهزيمة فرنسا ؟! وإذا كان لاعب المنتخب الفرنسي كيليان مبابي يقول: في تصريحه الأخير :”إن سبب خسارة منتخبه أمام الأرجنتين هو دعاء المغاربة عليهم”، وفي هذا التلميح ما يغني عن التصريح، فأمه وأخواله جزائريون فهل نعجب بعد ذلك من فرحة الفرحين وشماتة الشامتين!! اللهم لا .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫17 تعليقات

  1. مقامتك الخبرية والنقدية، ومكنتك اللغوية أكبر من الموضوع نفسه دكتور، وإن كنت أجد في المعنى المعجمي ل (الهرج والمرج) معان تخرج عن موطن الشاهد، ولكن للغتك بهاء وسناء ورعشة وبهجة تجعل كل ما تطرح بهيا جليا عليا أنيقا رقيقا.
    أرق وأجل التحايا دكتور

    1. شكرا لك دكتور أحمد على توضيحك الجميل لخلفية هذا ااحدث الرياضي السياسي الاجتماعي، وحقا ان الشعوب لا تنسى

  2. مقالة رائعة كما عودنا الدكتور أحمد الزبيدي. كأن هذه المقالة تتكلم بلسان حالنا، فقد وفق الدكتور في سبر مآسي العرب والمسلمين فكلماته نطقت بما أختلجت به صدورنا. أمنياتنا له المزيد من النجاح والتوفيق.

    1. مع الأسف ما زال من العرب والمسلمين من يطبل لهم علي الرغم من وضوح ما ذكرت دكتورنا العزيز
      ومن هنا تاتي الهزيمة، عندما يصبح خصمك داخل بيتك
      الله المستعان

  3. كالعادة ابداع رائع
    وطرح يستحق المتابعة
    شكراً لك
    بانتظار الجديد القادم
    دمت بكل خير..

  4. مقالة رائعة كعادتك دكتورنا الفاضل
    فهذا لسان حال كل عربي الآن …فكما أوضحتم و كما أعتقد أنه لا يوجد عربي واحد ألا وقد طار قلبه فرحًا بذلك الفوز الأرجنتيني والهزيمة الفرنسية …فكما أوضحتَ الماضي الجائر لهؤلاء الفرنسين المتعجرفين …فحاضرهم لا يختلف كثيرا من دعم لقضايا تخلف الفطرة و إساءة لرسولنا الكريم وغيرها وغيرها
    دكتورنا الكريم تناولك لهذا الموضوع كان اختيارا موفقا كما عهدناك
    وفقك الله دائما

  5. يا سلاااااااااام عليك
    أبدعت 👍🏻👍🏻با دكتور أحمد
    مقال يستحق القراءة 😍
    يسلمو إيديك

  6. أقل ما يقال في مقال الدكتور أحمد الزبيدي أنه مقال استثنائي وفريد من نوعه، فقد جمع بين الرياضة والسياسة وعلم الاجتماع، وهذه الثلاثة لا تتوفر إلا لكاتب موفق موفور الحظ، مسدد القلب..
    فقد أوقفتنا يا دكتور على ظاهرة تتعلق بسيكولوجية الشعوب والجماهير كما يقول الفيلسوف غوستاف لوبون في كتابه الفريد…!
    واعتمدت في تحليلك على الاستكناه فلله درك يا دكتور أحمد
    ما أسلس قلمك، وما أمضى يراعك!!

  7. تعقيب رائع وتحليل أروع لماشهدناه من أحداث في هذا المونديال
    سلمت يداك دكتور
    باانتظار المزيد من مقالاتك الشيقة🥰

  8. بعيداً عن الفرح والشّماتة فإنّي وجدت الإشارة إلى تاريخ فرنسا الاستعماريّ مفيدة وفي محلّها ووقتها على الرّغم من أنّ مقدّمة المقالة لا توحي بأنّ الطّرح سيكون بهذا العمق. إنّه تاريخ يجهله الجيل الجديد الّذي يراد له أن ينشأ جاهلاً تاريخ وطنه العربيّ وقبله تاريخ أجداده المسلمين. وقد تكفّلت مناهج التّعليم في بلداننا بذلك فحقّ أن نسمّيها مناهج التّجهيل.
    بوركت أيّها الفاضل.

  9. نعيم رضوان …
    سردت تاريخ فرنسا بشكل موسع ومدخلك للتاريخ من خلال ربطك التاريخ بالرياضة شيء مميز والرياضة كتاريخ لها تأثير لدى قطاع عريض من العرب والمسلمين والعالم كافة فهذا الربط التاريخي أضقى على تاريخ فرنسا الإستعماري صدقا للوقائع في اجرام فرنسا على مدى تاريخها المجرم .. وحتى ان نابليون حينما اراد ان يحتل فلسطين سير حملته الى فلسطين ومر على غزة وقد اصيب جنوده بمرض الطاعون جزاء له ولغطرسته وعندما وصل الى عكا لم يتمكن من دخولها وذلك لشجاعة اهلها وعاد بخفي حنين وقال مقولته المشهورة .. دفنت آمالي تحت أسوار عكا..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى