مقالات

فلسفة العيد عند الشعراء د. أحمد الزبيدي    –    الإمارات

د. أحمد الزبيدي

يرى الفيلسوف والأديب الألماني غوته أن الشعر العظيم هو شعر المناسبات، في حين أن غيره من النقاد العرب يرونه شعرًا باردًا متكلفًا لا حرارة فيه،

وقد انتقد طه حسين هذه الظاهرة في كتابه: “حافظ وشوقي” في أسلوب ساخر متزيدٍ فيه ” فقال: “وأصبح الشعر بفضل الشعراء وكسلهم العقلي فنًّا عرضيًّا، لا يحفل به إلا للهو والزينة والزخرف، فإذا أراد بنك مصر أن يفتتح بناءه الجديد، طلب إلى شوقي قصيدة، فنظم له شوقي هذه القصيدة، وإذا أرادت “دار العلوم” أن تحتفل بعيدها الخمسيني كما الكراسي الجميلة المزخرفة التي تتخذ في الحفلات والمآتم، وأصبحنا لا نتصور حفلة بغير قصيدة لشوقي أو حافظ، كما أننا لا نتصور عيدًا، أو مأتمًا بغير مغنٍ، أو مرتل للقرآن”.

والأمر -في ظني- ليس كما قالا؛ متعلقًا بالمناسبات وغير المناسبات، وإنما هو الصدق والتكلف في الشعر، فكما يكونان في ‌شعر ‌المناسبات يكونان في غيرها، فكم من شاعر يلهج بالحب، والوجد، والهيام، وهو عنهما في صممِ!

وقديما قالوا :” لَيْسَتِ ‌النَّائِحَةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ كَالنَّائِحَةِ الثَّكْلَى.”

صحيح أن كثيراً من المتطفلين على مائدة الشعر يتكلفون القول في المناسبات، ولكن الناقد الحاذق يميز صحيح الشعر من زائفه، والصيرفي الحاذق لا يرد النقود كلها لشيوع الزيف والتزوير.

وما يزال العيد منذ زمن بعيد مناسبة اجتماعية ودينية ظاهرة على بقية الظواهر الشعرية الأخرى، تحفز خيال الشعراء، وتفتق أذهانهم لتخليدها، فالشاعر ابن مجتمعه، ووليد بيئته، ليس له إلا أن يخلد المناسبات بشعره، ويصورها بخياله.

وقد تنوعت إبداعات الشعراء، وتعددت مواهبهم، فكانت التهنئة، وكانت الذكريات المبهجة، والذكريات المزعجة، وكان الشوق والافتقاد.

قال البحتري يبشر إخوانه بمقدم عيد الفطر:

‌مَضى ‌الشَّهرُ ‌مَحْمُوْدًا ‌وَلَوْ ‌قَالَ ‌مُخْبِرًا

لأَثْبَتَ ما أُوْليت أَيَّامُهُ الزُّهرُ

وهذا الشاعر الكبير ابن الرومي يمزج في شعره بين المدح والتهنئة بالعيد، قال:

وَلَمَّا اِنْقَضَى شَهْرُالصِّيَامِ بِفَضْلِهِ

تجلى هلالُ الْعِيدِ مِن جَانِبِ الْغَرْبِ

كَحَاجِبِ شَيْخِ شَاب مَنْ طُولِ عَمْرِهِ

يُشِيرُ لَنَا بِالرَّمْزِ لِلْأَكْلِ َالشُّرْبِ

أما ابن رشيق الشاعر والناقد القيرواني، ففي كل مرة يبش ويستبشر بالعيد ومقدمه، غير أنه هذه المرة يراه عابسًا متجهمًا، وذلك لبعده عن أحبابه، فقال::

تجهم العيد وانهلت بوادره

وكنت أعهد منه البشر والضحكا

كأنه جاء يطوي الأرض من بعد

شوقًا إليك فلما لم يجدك بكى

وقال آخر:

قَالُوا هنَاكَ قُدُومُ العِيْدِ قُلْتُ لَهُمْ :

مَا يَفْعَلُ العَاشِقُ المَهْجُورُ بِالعِيْدِ

عِيْدِي إِذَا كُنْتَ عِنْدِي يا مُنَى أمَلِي

‌للنَّاسِ ‌عِيْدٌ ‌وَلِي ‌عِيْدَانِ فِي عِيْدِ

ومما يُستجاد للشاعر العباسي أشجع بن عمر السلمي شعره في الرشيد رآه وقد ركب في يوم عيد؛ ركبة لم ير الناس مثلها؛ أحسن هيئة وأتم زينة وأكمل أداة وأكثر قُواداً وجنداً، فقال:

‌لا ‌زلت ‌تنشر ‌أعياداً ‌وتطويها

‌تمضي ‌بها ‌لك ‌أيام ‌وتثنيها

مُستَقبِلاً زِينةَ الدُّنيا وبَهْجَتها

أيامنا لك لا تَفْنَى وتُفْنِيها

العيد والعيد والأيام بينهما

موصولة لك، لا تفنى وتفنيها

ولْيَهْنِكَ الفتحُ والأيّام مُقبِلةٌ

إليكَ بالنصر مَعقوداً نواصِيها

ولم يرض أبو بكر الخالدي إلا أن يجعل وجه محبوبته هو العيد الذي يسرُّ به العيدُ:

‌رأى ‌العيد ‌وجهك ‌عيدًا ‌له

وإن كان زاد عليه جمالا

وكبّر حين رآك الهلال

كفعلك حين رأيت الهلالا

رأى منك ما منه أبصرَتْه

هلالًا أضاء ووجهًا تلالا

غير أن عيدَ المتنبي كان مختلفاً، فقد عاد عليه بسكب الدموع، وجوى الضلوع، ومفارقة الأعزة الجلة، ومحالفة الأسى والذلة.. فخاطبه بقوله:

عيدٌ، بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ

بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ

أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ

فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ

لَوْلا العُلى لم تجُبْ بي ما أجوبُ بهَا

وَجْنَاءُ حَرْف وَلا جَرْداءُ قَيْدودُ

يقول: لولا طموحه في اكتساب المجد، ورغبته في نيل المعالي، لما تكبد الأسفار الطويلة، و الرِّحَل البعيدة، ولا قطع الفلوات النازحة، والمهامة الشاسعة.

ولمعروف الرصافي قصيدة في العيد مطلعها:

أطلّ صباح العيد في الشرق يسمع

ضجيجاً به الأفراح تَمضي وتَرجع

صَــبَــاحٌ بِــهِ تُــبْــدِي الْـمَـسَـرَّةُ شَـمْـسَـهَـا

وَلَـــيْـــسَ لَـــهَــا إِلَّا الــتَّــوَهُّــمَ مَــطْــلَــعُ

ولجميل صدقي الزهاوي أيضًا رؤيته الخاصة في العيد:

قد عدت بعد ذهاب منك يا عيد

إذ كل شيء يسر النفس مفقود

أأنت عيد به الأفراح شاملة

أم مأتم فيه للأحزان تجديد

والكلام في ذلك يطول:

غير أني أنهي المقال في قصيدة وقفت عليها منذ عام، استوقفتني مَلِيّاً ، فقرأتها مرارًا، وأعدتها تكرارًا، وغنيتها وترنمت بها سرًا وجهارًا، وحق لكل قارىء يتذوق الشعر أن يحذوَ حذوي، ويقفوَ أثري، وكأني بصاحبة القصيدة تهتف بالشعراء:

فمن كان في قولٍ مُجيداً وقاصداً

مجِيداً به فَلْيَحْذُ في نَظْمِهِ ‌حَذْوِي

أما القصيدة فعنوانها “عيد” وأما الشاعرة فهي الأديبة ثريا نعمان ماهر، كريمة الشاعر الفحل نعمان ماهر-رحمه الله -. ومن حق الشاعرة والقصيدة علينا أن نكتب عنهما دراسة وافية في قابل الأيام:

تعال يا عيدُ واحمل

لناظريكَ سرورا

إن تُلق رحلك هنَّا

تجد أُهيلاً كثيرا

الوصل يا عيد أولى

كفاك تُبدي خُفورا

نرومُ منك مقاما

وتتَّقينا نفورا

ماذا عليك إذا ما

أقمتَ فينا شهورا

يجيءُ يومُك لمحا ً

كأنْ تخاف تزورا

واللطف منك بروقٌ

تجودُ نزراً يسيرا

تعال يا عيدُ وانثر

على الدِّيار عطورا

أزل قتام الليالي

وشُقَّ منها ستورا

فالنَّاس سموك عيدًا

وصوَّروك بدورا

وإن يلاقوك يهفوا

إلى السُّعود بُكورا

فإن عدمتَ جديدًا

ولم تجدْ لك نورا

والسعدُ فيك توارى

يشيحُ طّرْفًا حسيرا

فعد بنا لعهودٍ

طوينَ عمرًا وقورا

لم تُبق منها الدواهي

سوى الرَّسيس سميرا

واسرقْ من العمر ذكرى

رُقادها أن تمورا

تنسلُّ منها طيوفٌ

يرهقْن منا الشعورا

وعُجْ بنا بربوعٍ

أضحين رسمًا أثيرا

واردُدْ علينا فؤادًا

بذي الربوع أسيرا

وحبذا نفَحاتٌ

يحملن منها عبيرا

إذِ الأحبة عقدٌ

والودُّ ما كان زورا

يا عيد رجَّع حنينًا

لا نعدِمَنْه دُهورا

لم يطوه الليلُ لحناً

رعاه سرًّا خفيرا

ولا جلاهُ نهارٌ

ولا كساهُ فتورا

ولا جفتْهُ عيونٌ

بالدمع سحَّت بحورا

وآهةُ الصدر تأبى

تطفيهِ نفثاً حَرورا

يا عيدُ عجل بسَعدٍ

ولا تَعِدْنا غرورا

فالشاعرة تصور العيد كما تحب ونحب أن يكون، فرحة للكبير والصغير، غير أنها تتحسر على مجيئه عندما يأتي زائرًا ومسرعًا كأنه البرق، فتتوسل إليه هذه المرة على الأقل أن يلقي رحله ويبقى، ويكون مقيمًا دائما، فمجيئه ينثر في الدنيا العطر، ويزيل الظلم والقهر.

وفي الختام تناشده أن يستجيب رجاءها، ويلبي نداءها، ويعجل ويفي بوعده، ويصدق بعهده.

واليوم، يأتي علينا عيد الفطر، ونحن في حال أشبه بحال أبي الطيب، نشيدنا هو نشيد الألم الذي هتف به منذ ألف عام في أذن الزمان ، فكلنا ضحية الأمراض الغائلة، والأوهام القاتلة، والهموم الجاثمة، وكلنا غريب تملأ نفسه الوحشة والفرقة، وكلنا ينشد صراخ أبي الطيب: ‌عيد! ‌بأية ‌حال عدت يا عيد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

    1. مقال جميل احسنت صنعا ونسيجا رائعة خيوطه وصنعته ومظهره وملمسه وباطنته اجدت وابدعت دكتور احمد الزبيدي دوما ما يشرق قلمك كالشمس والعيد والبشرى حاملا في طياته المعرفة والعلم والكلمات الجميلة والامل .كل عام وانتم بخير مع الحب والتحية والاحترام والتقدير تحياتي .مهند الشريف

  1. انا أقف مع حرية التعبير وأبتعد عن نقد أو أنتقاد الآخرين.
    ليس من الحكمة انتقاد اي إنسان أو أي شاع .. يوما ما… سنفهم ما قيمة حرية التعبير واحترام الغير!
    م.فاروق المالكي

  2. اعجبتني جدا مقالتك عن العيد؛ لاحتوائها ما يشفي الغليل من الشعر.
    وأي قصيدة تلك التي أبدعتها الدكتورة الشاعرة ثريا
    لقد لاقت العيد بخليط من مشاعر هي مشاعر كثير منا تبدو حينا وتخبو حينا..
    لاقته بالحنين والرجاء
    وعاتبته مخافة الجفاء
    تلهفا اليه وريبة من قصر مقامه
    وكأنها تهمس باليأس من جدوى العيد
    ؛ إذ تطويه أيامنا العصيبة فلا نكاد نفرح وبؤسنا جاثم وعيشنا آزم وغدنا قاتم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى