د. أحمد الزبيدي
قال أبو الطيب المتنبي في “معجز أحمد” (ص204) :
فَسِرْتُ إِلَيْكَ في طَلَبِ الْمَعالِي
وَسارَ سِوايَ في طَلَبِ الْمَعاشِ
يقول: إنما قصدتك لأبلغ المنازل الرفيعة والمناصب البديعة، وقصدكَ غيري لطلب المعاش، واقتناء الرياش.
قال ابن الرومي:
أبَتْ لي قُبولَ الضيم نفسٌ أبيّة
تبيع بعز الموتِ ذُل حَياتها
وقال أبو الحسن النّعيمي:
إِذَا أَظْمَأَتْكَ أَكُفُّ الْلِئَامِ
كَفَتْكَ الْقَنَاعَةُ شِبَعًا وَرَيَّا
فَكُنْ رَجُلًا رِجْلُهُ فِي الثَّرَى
وَهَامَةُ هِمَّتِهِ فِي الثُّرَيَّا
أَبِيًّا بِوَجْهِكَ عَنْ بَاخِلٍ
بِمَا فِي يَدَيْهِ تَرَاهُ أَبِيَّا
فَإِنَّ إِرَاقَةَ مَاءِ الْحَيَاة
دُونَ إِرَاقَةِ مَاءِ الْمُحَيَّا
وهذا يدلك على حقيقة نفس أبي الطيب؛ الحرة الأبية، وما تميزت به عن شعراء العربية جميعًا، بل شعراء الإنسانية كلها.
وَأَنْشَدوا لامْرِئِ الْقَيْسِ:
فَلَوْ أنّ ما أسعَى لأدْنى مَعِيشَةٍ
كَفاني، وَلمْ أطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ المَالِ
وَلَكِنّمَا أسْعَى لِمَجْدٍ مُؤثَّلٍ
وَقد يُدرِكُ المَجدَ المُؤثّلَ أمثَالي
قال “المستعصمي” في “الدر الفريد” (ج8 ص67) : البَيْتُ الَّذِي يَقُولُ فِيْهِ- امرؤ القيس-: وَقَدْ يُدركُ المَجْد المُؤثلَ أمْثَالِي.
فِيْهِ شَمَمٌ مِنَ الجِّنَاسِ الَّذِي جَاءَ للعَرَبِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ وَإِنَّمَا هُوَ بِالطَّبع. قلت: وهو بالمتنبي أليق، وفيه أصدق حين يقول:
فَسِرْتُ إِلَيْكَ في طَلَبِ الْمَعالِي..
وما قوله هذا الشعر لأبي العشائر -قريب سيف الدولة الحمداني-وما سيقوله لسيف الدولة بعدُ؛ إلا لأنه كان يرى فيهما أصحاب سطوة ونخوة وشوكة وبأسً عربي الأرومة والمحتد، عربي الثقافة واللسان، عربي المعرفة والمشاعر والجنان، إلى الدوحة العلويّة الكريمة ينميان، فهما بلا شك قادران؛ على أن يشفيا ما في صدره من الغيظ، وما في قلبه من الحنق؛ على الأعاجم الذي علا أمرهم، وقويت شوكتهم على الخلافة العربية، وقد خص المتنبي بني حمدان دون غيرهم من الولاة والأمراء بهذا النوع من المدائح لما عرفوا به من القوة في الحكم، والدهاء في السياسة، والعصبية للعرب،وبغضهم لحكام الأعاجم؛ الروم، والترك، والديلم، الذين كان لهم الأمر والنهي في الدولة كلها، ولم تنقطع حروبهم على الدولة العربية؛ بالسنان واللسان وسياسة “فرق تسد” بين الأهل والإخوان، وهذا الذي حمله على خطاب سيف الدولة بقوله:
وتعذُّرُ الأحرار صيّر ظهْرها،
إلا إليكَ، عليّ ظهْرَ حرامِ
أَنْتَ الغَريبَةُ في زَمَانٍ أَهْلُهُ
وُلِدَتْ مَكَارِمُهُمْ لِغَيْرِ تَمَام
ولا غرو في ذلك، فقد كان سيف الدولة الحمداني عربيًّا قحًّا، لا شائبة فيه لعجمة، مُذلًا للروم، قاهرا لهم، قامعا لأطماعهم، وعينا على عيونهم .
قال العلامة محمود شاكر: “المتنبي” (ص296) :”دخل أبو الطيب أنطاكية ليلقى العرب والعربية في مجلس بني حمدان، وقد رمى دَبْرَ أذنه وتحت قدمه، الأعاجم وما مدحهم به. وأراد أن ينقل شعره من تكلف المديح إلى التطلُّق والاسترسال في مدح من هم من رأيه، ومن يجد فيهم مرضاة نفسه وآماله.
ولئن كان قبلُ قد مدح القوم العلوج ليستخرج منهم بعض أموالهم التي غلبوا الأمة عليها ، وليكون على مقربة من مكرهم ودسهم ، وعلى علم بما يضمرونه لأمته من الشر الغالب على قلوبهم وعقولهم= فهو الآن قد وجد قوته وأهله وعشيرته ، فليأتِهم بكل غريبة من القول، وليمجد ذكرهم في شعره، وليهدأ قليلا مما كان فيه من الثورة، ليستطيع أن يحزم رأيه وتدبيره مع هؤلاء القوم، على أن يعيدوا مجد العربية،(ويديلوا دولة الخدم) الذين غلبوا على سياسة الأمة، ورموا بها في مفاوز الظلمة ، فهذا سر قوله لأبي العشائر:
فسرت إليك في (طلب المعالي)
وسار سواي في (طلب المعاش)
وهذا الذي ذكره الأستاذ شاكر يُعدُّ مفتاح شخصية أبي الطيب المتنبي، وسر أسراره حياته الذي انطوت عليه جوانحه ونفسه وشغاف قلبه!
وثمَّ أمرٌ مهم لم أذكره على كثرة ما كتبتُ عن المتنبي وشعره وحياته، غفلَ عنه كل من كتب عن المتنبي قديمًا وحديثًا-حسب علمي– حتى الأستاذ الكبير، والعلم النحرير محمود شاكر؛ وهو في رأيي أفضل من شرح المتنبي، وهذا الأمر هو؛ طريقة أبي الطيب ومنهجه في مدح بني حمدان وما كان يسبغه عليهم من ثياب السؤدد والمجد، وما كان يعلو به من شأنهم حتى يرفعه إلى العلياء في القوة والشجاعة، والسماحة، والرأي، وشرف الغاية وعظم المطلب!
يفعل كل ذلك وهو يعلمُ تمام العلم أنهم ليسوا كذلك وإن كانوا قريبين من ذلك. وفي رأيي أن أبا الطيب كان يرسم لهم -من وجهة نظره- الطريق ليتصوروا بالصورة المثالية التي يجب أن يكونوا عليها، من جهة ، ومن جهة أخرى كان يأخذ بأيديهم إلى تحقيق ذلك.
وهو أسلوب تربوي وتعليمي قديم جديد، ما نزلنا نسلكه مع أولادنا، فعندما يعثر الواحد منهم ويأخذ في البكاء من الألم، نشجعهُ ونقول له: اصبر يا بطل، الأبطال لا يبكون، والكبار لا يتألمون، اصبر على ألمك، واكتم على جرحك، وإذا خشي من شيء، نتصنع التعجب والدهشة في وجهه ونقول: عجبا لرجل مثلك! كيف يخاف؟ وهكذا.
-
ذكروا أن مُعَاوِيَة كان يمشي مَعَ أمه فعثر، فقالت له: قُم لَا رفعك الله – وأعرابي ينظر إليه – فَقالَ: لم تَقُولِين له هذا؟ فوَاللَّه إِنِّي لأظنه سيسود قومه. فقالت: لَا رَفعه الله إِن لم يسد إِلَّا قومه!
-
ومما يتصل بهذا الأمر: التفريق بين مدائح المتنبي ومدائح غيره من الشعراء؛ أما مدائح الشعراء فغايتها معروفة ومألوقة؛ وهي إرضاء الممدوح في كل حال، وأما مدائح المتنبي فغايتها أن تكون معيارا وميزانا لمن هو أهلها ولمن يستحقها من الأمراء النبلاء، فهو إذا ذكر صورة الممدوح وبالغ في وصفه، فكأنما يقول للمدوح بلسان الحال: كُن ذلك الرجل الذي صَوَّرْتُه بشعري، فإذا كُنتَهُ استحققت شعري، فكانت قصائدي قلائد من الفخر والمدح تطوق بها جيدك على الأيام والأزمان!
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، هل تحقق لأبي الطيب ما يريد، وهل بلغ أمله وتحققت أحلامه في الأمير الرشيد؟
الجواب: نعم، تحقق ذلك إلى حد بعيد، فقد حارب سيف الدولة الأمير في عقر دارهم، وبلغ مواطن لم يبلغها أحد من العرب والمسلمين وكاد أن يستولي على القسطنطينية. قال “الثعالبي” : وكانت غزواته تدرك من طاغية الروم الثأر.
حمى المقدسات الإسلامية من رجس الروم عشرين عامًا.
وقد تم له الاستيلاء على أكثر الشام سنة 337ه ، مما استحق أن يكون أهلًا لقول أبي الطيب فيه:
وعندي لك الشُّرُدُ السائراتُ
لا يختصصنَ من الأرض دارا
قوافٍ إذا سرن من مقولي
وثبن الجبال وخضن البحارا
الشُّرُد: جمع شرود، يعني القصائد التي لا تستقر في مكان واحد بل تسير في البلاد والآفاق.
وقوله: وثبن الجبال؛ أي قطعنها، وإنما قال وثبن لارتفاع الجبال والمعنى أن الجبال والبحار لا تمنع سيرها.
ولك أن تتخيل حال “سيف الدولة” وهو يسمع ذلك!
وتخيل أن يقول لك والدك وأنت تستعدّ لدخول امتحان الثانوية: إذا حصلت على معدل عالٍ تكون به من الأوائل في الدولة، لك عندي سيارة جديدة من النوع الذي تحبه، وأزوجك بفتاة أحلامك، وأشتري لك قصرًا، وعقارًا، وأجعلك من الأثرياء….الخ
وكل الذي قيل لك وأعظم منه بدرجات قاله المتنبي لسيف الدولة في بيتين من الشعر، فماذا عسى الأمير أن يصنع!
وفي صحيح البخاري (2847) :” قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: (لأعطين الراية غدًا رجلًا يفتح على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله). فبات الناس ليلتهم: أيهم يعطى، فغدوا كلهم يرجونه،..الخ
والشاهد في هذا الحديث؛ فبات الناس ليلتهم: أيهم يعطى، فغدوا كلهم يرجونه.. والقرآن مليء بمثل هذا، والسنة القولية والعملية!
ولم لا يمدحه بذلك وهو لا يقر بحكم الفاطميين، ولا يرضى عنهم، ولذلك وجه قوته لنصرة الخلافة العباسية مع أنه علوي المذهب!
وفي المقابل فإن “سيف الدولة” علم بفراسته أن أبا الطيب هو مخلد شعره، وباني مجده، وناشر ذكره في الآخرين، فقد كان الرجل أديبًا وشاعرًا وناقدًا في الوقت نفسه، ولعل هذا من جملة الأسباب التي جعلت المتنبي يُجَود شعره، ويحلق بطيره، ليفوز بمودته، ويستأثر بقربه، فلقد أمَّن له في جواره كل ما يحتاجه من الاستقرار والأمان والمنزلة؛ فتهيأ لأبي الطيب كل ما يعينه على العبقرية والسبق والنبوغ.
وليت شعري هل كان عليّ ابن الجهم يصف شعره أم شعر المتنبي حينما قال:
فسار مسير الشمس في كل بلدةٍ
وهبَّ هبوب الريح في البرّ والبحرِ
-
قال المؤرخون: “في سنة 342ه أنهك سيف الدولة الروم في موقعة (بطن هنريت)، وكان “الدُّمُسْتُق” وولده يحاربان ، فجرح “الدُّمُسْتُق” ، وجُرح ولده في مقتل ،فهرب الوالدُ لا يلوي على شيء؛ تاركًا فلذة كبده رهين الأسر والموت ، فخلد أبو الطيب الموقعة بشعره ، و لفت لهذه الحادثة ، مشيرا إلى ازدرائه واحتقاره لهذا الأب الذليل الجبان الذي خلف مهجته للموت لينجو بنفسه، فقال:
لَعَلَّكَ يوماً يا دُمُسْتُقُ عَائِدُ
فَكَمْ هَاربُ مما إليه يَؤولُ
نَجَوْتَ بإِحْدَى مُهْجَتْيكَ جَريحَةً
وَخَلَّفْتَ إِحدى مُهْجَتْيكَ تَسْيلُ
أَتُسْلِمُ لِلْخَطَّيةِ ابْنَكَ هَارباً
وَيَسْكُنُ في الدُّنْيا إليكَ خَليلُ
وما غضب أبي الطيب من “الدُّمُسْتُق” وسخطه عليه إلا لأنه خالف قانون الرجولة، وحط من قيمتها، فاستحق احتقاره وازدراءه، فأبو الطيب يعشق الرجولة، ويحب من عدوِّه ما يحبه من نفسه؛ تشبثٌ بالرجولة في جميع أحوالها؛ في الحرب، والسلم، والهزيمة، والنصر ، والقوة والضعف، في الإقبال والإدبار !
ولقد سلخ أبو الطيب في ظل “سيف الدولة” من سنة 337ه – 346 ه، ممجدًا له ، ورافعًا لذكره، ومدافعًا عن عرضه، وناشرًا لفضائله ومناقبه، ومخلدًا غزواته وانتصاراته، ثم قضى الله سبحانه أن لا تكتمل فرحة المتنبي، فقديمًا قال أبو البقاء الرندي المتوفى سنة 798 هـ :
لكلِ شيءٍ إذَا مَا تَمَّ نُقْصانُ
فَلا يُغَرُّ بطيب العَيْشِ إِنسانُ
هِيَ الأمُورُ كما شاهَدْتُها دُولُ
من سَرَّهُ زمنٌ ساءَتْهُ أزْمَانُ
ثم فارق المتنبي صديقه “سيف الدولة”؛ أمير العرب الذي أحبه وتأمل فيه خيرا وبركة ونصرا، فارقه وهو لا يزال على العهد؛ على محبته، والإخلاص له، وكان “سيف الدولة” هو الآخر يبادله الحب بالحب، والوفاء بالوفاء، وكان لا يفتأ يسأل عن أخباره، ويتتبع شعره، ويحفظ قصائده وكان يصله بهداياه، وكان يكاتبه، ويتلقى منه، وهذا دليل على عمق الصداقة، وقوة الرابطة. فارق المتنبي صديقه وقد ضمن هين البيتين كل ما يكنه لصديقه من مشاعر الحب والوفاء:
غادر المتنبي أرض مصر وشعوره لأميره السابق “سيف الدولة” نستطيع أن نجمله في بيتين قالهما المتنبي وهما:
فارقتكم فإذا ما كان قبلكم
قبل الفراق أذى، بعد الفراق يد
إذا تذكرت ما بيني وبينكم
أعان قلبي على الشوق الذي أجد
أما “سيف الدولة” فقد أظلمت عليه الدنيا، وشعر بفراغ لم يملأه عليه بعد المتنبي أكثر من مئة شاعر كانوا في بلاطه، ولم يكن يحب شيئا حبه عودة المتنبي، ولكن سمو نفس المتنبي وكبرياءه أبيا عليه ذلك.
وقد رووا أن “سيف الدولة” أنفدَ إلى أبي الطيب هدية مع أحد أقاربه، فكافأه المتنبي بقصيدة يقول فيها:
أنت طولَ الحياة للروم غازٍ
فمتى الوعدُ أن يكون القُفُولُ
وسوى الروم خلفَ ظهركَ روم ٌ
فعلى أيِّ جانبيك تميلُ
قعد الناسُ كُلُّهُمْ عن مساعيكَ،
وقامت بها القنا والنُّصولُ
ما الذي عنده تُدارُ المنايا،
كالذي عنده تدارُ الشَّمولُ*
(*الشمول: هي الخمر)
زر الذهاب إلى الأعلى