مقالات

دراسات قرآنية (2) د . أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد لالزبيدي

سورة البقرة (1)

قال تعالى في سورة “البقرة” : {ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (2)
يعني: أَنَّ “القرآن” حَقٌّ يَقِينٌ لَا بُطْلَانَ فِيهِ، وَيَقِينٌ لَا رَيْبَ فِيهِ.
الرَّيْبُ: قَرِيبٌ مِنَ الشَّكِّ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ، كَأَنَّهُ ظَنُّ سُوءٍ، تَقُولُ: رَابَنِي أَمْرُ فُلَانٍ إِذَا ظَنَنْتَ بِهِ سوء، وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ». صحيح
وقد طَعن بَعْضُ الْمُلْحِدَةِ فيه فَقَالَ: إِنْ عَنَى أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَنَا فَنَحْنُ قَدْ نَشُكُّ فِيهِ، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَهُ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ.
والْجَوَابُ: أَنَّهُ بَلَغَ في الْوُضُوحِ إِلَى حَيْثُ لَا يَنْبَغِي لِمُرْتَابٍ أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ، فالْعَرَبَ مَعَ بُلُوغِهمْ نهاية الْفَصَاحَةِ عَجَزُوا عن مُعارضَة أَقْصَر سُورَة مِنَ سوره.
فإن قيل: لم قال في سورة البقرة : {لا رَيْبَ فِيهِ} وَفِي الصافات: {لَا فِيها غَوْلٌ} . ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ فالأهم، وهاهنا الْأَهَمُّ نَفْيُ الرَّيْبِ بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ الْكِتَابِ، وَلَوْ قُلْتَ: لَا فِيهِ رَيْبٌ لَأَوْهَمَ أَنَّ هُنَاكَ كتاباً آخر حصل الريب فيه لا ها هنا، كَمَا قَصَدَ فِي قَوْلِهِ: {لَا فِيها غَوْلٌ} تَفْضِيلَ خَمْرِ الْجَنَّةِ عَلَى خُمُورِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا لَا تَغْتَالُ الْعُقُولَ كَمَا تَغْتَالُهَا خَمْرَةُ الدُّنْيَا .
فإن قيل: مِنْ أَيْنَ يَدُلُّ قَوْلُهُ: {لَا رَيْبَ فِيهِ} عَلَى نَفْيِ الرَّيْبِ بِالْكُلِّيَّةِ ؟ الْجَوَابُ: قَرَأَ أَبُو الشَّعْثَاءِ لَا رَيْبَ فِيهِ بِالرَّفْعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ تُوجِبُ ارْتِفَاعَ الرَّيْبِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَا رَيْبَ فِيهِ} نَفْيٌ لِمَاهِيَّةِ الرَّيْبِ، وَنَفْيُ الْمَاهِيَّةِ يَقْتَضِي نَفْيَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ لَثَبَتَتِ الْمَاهِيَّةُ، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ، وَلِهَذَا السِّرِّ كَانَ قَوْلُنَا: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» نَفْيًا لِجَمِيعِ الْآلِهَةِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى.

فإن قيل : إن كلمة (ذلك) اسْمٌ مُبْهَمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى الْبَعِيدِ. والمشار إليه هنا في هذه الآية الكريمة هو الكتاب (القرآن الكريم)؛ وهو حاضر قريب ، فكيف يشير إلى القريب بما يُشارُ به إلى البعيد !؟
قال الإمام الطبري-رحمه الله- :”وقد يحتمل قوله جل ذكره {ذلك الكتاب} أن يكون معنيًّا به السُّوَرُ التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة.
ومع وضوح كلام الإمام أبي جعفر إلا أننا نزيده وضوحا فنقول : إنَّ اللَّهَ سبحانه وتَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ منجماً، فَنَزَلَ قَبْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ سُوَرٌ كَثِيرَةٌ، فَقَوْلُهُ: (ذلِكَ) ربما يكون إِشَارَةٌ إِلَى تِلْكَ السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ من قَبْلُ ، ولا غرو في ذلك فبَعْضُ الْقُرْآنِ قُرْآنًا، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الْأَعْرَافِ: 204] وَقَالَ في آية أخرى حَاكِيًا عَنِ الْجِنِّ حينما سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر قولهم: {إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً}. [الْجِنِّ: 1].
وما سمع الجن إلا بعض القرآن !
وقد يشير بذلك إلى قوله تعالى : {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [الْمُزَّمِّلِ: 5]. والقول الثقيل المبارك هو القرآن، فهو ثقيل في الدنيا وفي موازين يوم القيامة، وكل ما وعد الله به سبحانه متحقق لا محالة.
ولا نستبعد أيضاً أن يكون أشار إلى أصل مكان الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فقد قال: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا } [الزُّخْرُفِ: 4]، أي أن هذا الكتاب أصل الكتاب الذي منه نسخ هذا الكتاب.
فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى: {ذلِكَ الْكِتابُ} لِيُعْلِمَ أَنَّ هَذَا الْمُنَزَّلَ هُوَ ذَلِكَ الْكِتَابُ الْمُثْبَتُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
وثم وجه ثالث ذكره الإمام الفخر الرازي -رحمه الله- ، قال : “ولَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَةَ «ذَلِكَ» لَا يُشَارُ بِهَا إِلَّا إِلَى الْبَعِيدِ، وبَيَانُهُ أَنَّ (ذَلِكَ) ، وَهَذَا حَرْفَا إِشَارَةٍ، وَأَصْلُهُمَا “ذَا” ، لِأَنَّهُ حَرْفٌ لِلْإِشَارَةِ، قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [الْبَقَرَةِ: 245]، وَمَعْنَى “هَا” تَنْبِيهٌ، فَإِذَا قَرُبَ الشَّيْءُ أُشِيرَ إِلَيْهِ بهَذَا، أَيْ تَنَبَّهْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ لِمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ حَاضِرٌ لَكَ بِحَيْثُ تَرَاهُ، وَقَدْ تَدْخُلُ الْكَافُ عَلَى “ذَا” لِلْمُخَاطَبَةِ وَاللَّامُ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ فَقِيلَ: “ذَلِكَ” فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بَالِغٌ فِي التَّنْبِيهِ لِتَأَخُّرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عَنْهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ ذَلِكَ لَا تُفِيدُ الْبُعْدَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، بَلِ اخْتُصَّ فِي الْعُرْفِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى الْبَعِيدِ لِلْقَرِينَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَصَارَتْ كَالدَّابَّةِ، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ فِي الْعُرْفِ بِالْفَرَسِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ مُتَنَاوِلَةً لِكُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فنقول: إنا نحمله هاهنا عَلَى مُقْتَضَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، لَا عَلَى مُقْتَضَى الْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ، وَحِينَئِذٍ لَا يُفِيدُ الْبُعْدَ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمُقَارَبَةِ يُقَامُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ مَقَامَ الْآخَرِ، وله شواهد كثيرة في التنزيل العزيز، ومنها ؛قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ}، ثم قال: (هذا ذِكْرُ} [الأنبياء: 24] و: قوله: {وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ}. وقوله : {وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] وَقَالَ: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى} [النَّازِعَاتِ: 25، 26].
وَقَالَ: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 105].
وقال في سورة السجدة : {الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } [1- 3] .
قال صاحب “الأنموذج”: فإن قيل: كيف قال: {لَا رَيْبَ فِيهِ} على سبيل الاستغراق وكم ضالّ قد ارتاب فيه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} ؟
قلنا: معناه لا ريب فيه عند الله ورسوله والمؤمنين، أو هو نفى معناه نهى؛ أي: لا ترتابوا فيه، إنه من عند الله، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. تحياتي واحترامي لقد استمتعناا بهذا الشرح المفيد في لغة القران وهو ابلغ ان يشكك به رشيد عاقل وهو محكم والخطاب لمن يعقله فيفهمه ويتدبره لا من يلهو ويلعب ويلغو ويلحن والله الحق لا ياتي الا بالحق وقد قال عنه الفرقان ليفصل عنه الباطل ويفرق بين الهدى والضلال والباطل لا ياتيه من اي منحى فهو النور وقد وصفه بالنور وكما نرى النور في حياتنا اليومية وهي حفيقة لا ريب فيها كذلك القران .مقال رائع قرانا كلماتك بتمعن وتدبر وانت دكتور احمد الزبيدي الباحث الذي يضع كل شيء في ميزان الصواب وقد اصبت وبلغت المقصد والمنشود فلك كل المحبة والاحترام والتقدير لشخصك الكريم ولقدرك الاصيل في كلماتك وتفصيلك .تحياتي .مهند الشريف

  2. جزاك الله خيرا دكتورنا المكرم ونفعنا الله بعلومك ، وقد جاء حرفا الاشارة في حق القران ( ذلك الكتاب ) و ( إن هذا القرآن ) ليجمع بين المعنيين ذلك لبعد شأنه وعلو قدره وجلال جاهه ، واسم الإشارة هذا لقربه من قلوب المؤمنين و أسماعهم و تردده على ألسنتهم .

  3. السلام عليكم دكتور احمد وكل عام وانتم بخير ورمضان مبارك.
    الحمد لله على نعمة الاسلام والحمدلله على نعمة القران وعلى لغتنا العربيه وتمام العقل والدين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى