مقالات
شهادة الدكتوراه: بين مفتاح العلم ووهم الكمال د. قاسم الكوفحي* – الإمارات

عندما كنت أحضر لدرجة الدكتوراه في جامعة عمّان العربية عام 2001، دخل علينا، في أول محاضرة، أستاذ دكتور من العراق الشقيق، وقال لنا بالحرف الواحد: “أيها الطلبة، اعلموا أن درجة الدكتوراه هي مفتاح العلم، وليست هي كل العلم“. هذه العبارة ما زالت ترن في أذني، ليس فقط لقوة تعبيرها، بل لعمق دلالتها، ولصدق ما تنطوي عليه من وعي نادر، غير أن ما يؤسف له، وما يثير في نفسي قلقًا عميقًا، هو ما أشهده اليوم من انقلابٍ في فهم تلك الحكمة؛ إذ يبدو أن كثيرًا ممن نالوا هذه الدرجة العلمية، لا أقول الكل طبعًا، يتعاملون معها على أنها خاتمة المعرفة، لا بدايتها؛ ويتبنون سلوكًا يتسم بالإقصاء والتعالي، كأنهم قد بلغوا مقامًا لا يحقّ لغيرهم أن يصعد إليه.
من زاوية فلسفية، يمكن تأمل هذه الظاهرة بوصفها إحدى مفارقات المعرفة. فمن المفترض أن يقودنا العلم إلى مزيد من التواضع، وأن يعلّمنا كلما ازددنا علمًا، ازددنا إدراكًا بجهلنا. هذه ليست حكمة قديمة فحسب، بل حقيقة نفسية متجذّرة. فالعقل الذي ينضج علميًا لا يتشبث بالشهادات كرموز للهيمنة، بل يراها أدوات لسبر أغوار الوجود ومساءلة اليقين، ولذا فإن من يرى الدكتوراه ذروةً نهائية، وليس بداية رحلة، إنما يكون قد انخدع بالبريق الخارجي للمعرفة، لا بجوهرها.
أما نفسيًا، فثمة ما يُمكن تسميته بـ**”الارتداد النرجسي بعد الإنجاز”**، وهي حالة يشعر فيها الفرد، بعد تحصيله مرتبة أكاديمية عالية، بحالة من الامتلاء الذاتي المبالغ فيه. هذا الامتلاء لا ينبع من المعرفة الحقيقية، بل من شعور بالحاجة إلى التميز، إلى التعويض، إلى الانتماء إلى طبقة “خاصة”، كأن العلم صار بطاقة عبور اجتماعية لا مشروع فكر وتأمل. حينها يصبح الحوار تهديدًا، والمناقشة انتقاصًا، والنقد حربًا على الذات، لا فرصة لتوسيع الأفق. وهذا ما نراه حين يُمنع “من هم أقل” من المشاركة أو التفكير أو طرح التساؤلات.
إن هذا السلوك، في حقيقته، ليس إلا ضعفًا مقنّعًا بالقوة، وخوفًا داخليًا من اكتشاف الهشاشة خلف الجدران العالية. فالعالم الحقيقي لا يخشى السؤال، ولا يقلق من أن يخطئ، لأن علمه لا يسكن في “الشهادة”، بل في عقله وروحه، في قراءته المستمرة، وفي استعداده الدائم لمراجعة أفكاره، لا التمترس خلفها.
الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر تحدث يومًا عن “نسيان الوجود” حين ينشغل الإنسان بالمفاهيم أكثر من جوهر الحياة. وهذا ما يحدث عندما تتحول الدكتوراه إلى مفهوم اجتماعي، إلى لقب نعلقه على صدورنا، وننسى أن العلم مشروع وجودي، يتطلب منا أن نبقى في حال من التوتر المعرفي، والقلق الفكري، والتواضع العميق.
وقد يكون الأمر أيضًا نتاجًا لنظام أكاديمي يُضخّم الشهادات، ويُضعف مهارات التفكير النقدي. فيصبح الهدف هو الإنجاز الورقي، لا التحول الذهني. ويتحول الأكاديمي من باحثٍ عن المعنى إلى حارسٍ على الشهادة، ومن شغوفٍ بالحقيقة إلى متشبثٍ بالمنصب واللقب. ولعلّ المجتمع نفسه يسهم في هذه المفارقة، حين يضفي على الدكتوراه طابع القداسة، فيُعامل الحاصل عليها وكأنه المعصوم من الخطأ، فيعيش هو داخل هذا الإطار، ويُصبح أسيره.
من هنا، تأتي أهمية العودة إلى كلمات ذلك الأستاذ العراقي، التي تحوي في بساطتها عُمقًا كبيرًا: “الدكتوراه مفتاح العلم… وليست كل العلم”. إنها دعوة لإعادة تموضع ذواتنا داخل مشروع المعرفة، دعوة لأن نتذكر دومًا أن كل باب نطرقه في العلم، يفتح لنا عشرات الأبواب الأخرى التي لا نعرفها بعد، وأن قمة التعلّم هي أن ندرك كم ما زال أمامنا لنتعلمه.
في لحظة تأمل عميقة، يبدو لي أن أعظم من يحمل الدكتوراه بحق، هو ذاك الذي لا يشعر أنه يحمل شيئًا، بل يشعر أنه ما زال يبحث. هو الذي يجلس في صمت بين كتبه، يستمع، يتأمل، يسأل، ويقبل النقد كهدية لا كإهانة. هو الذي يوقن أن المعرفة ليست حكرًا، بل حق مشاع، وأن العقول الكبيرة لا تُقاس بدرجاتها الأكاديمية، بل بقدرتها على الإنصات، والتفكير، والانفتاح.
فلنُعد للدكتوراه معناها الحقيقي، كمفتاح، لا كجدار. كدعوة للرحلة، لا كإعلان للوصول. ولنجعل من حاملي هذه الدرجة منارات للضوء، لا أبراجًا من العزلة. فالعلم، في جوهره، ليس رتبةً، بل حالة مستمرة من الدهشة.
هل ترغب أن أضيف قسمًا يتحدث عن دور الجامعات أو المجتمع في ترسيخ هذه المفاهيم؟
_____________________
* رئيس قسم الدراسات العليا – كلية الدراسات العليا – جامعة الشارقة، دولة الإمارات العربية المتحدة منذ 2007 ولغاية 1/9/2024 – كاتب وروائي وناقد مسرحي